حين وصلت إلى دمشق بقصد الدراسة أواخر عام 2012، كانت المدينة على صفيح ساخن: تظاهرات، اعتقالات، خطف، عمليات عسكرية، قصف جوي، وفيات بالمئات يومياً، عصابات التشبيح في كل شارع، طرق مقطوعة، لا ترفع جوالك إلى مستوى صدرك بما يشبه التصوير، حواجز الانتظار الأبدي…. إلخ. كنت قد وجدت لنفسي سريراً حديدياً في السكن الجامعي على اوتستراد المزة الذي يمسي مهجوراً بعد الساعة التاسعة مساءً مثله مثل باب شرقي أو أي مكان آخر في دمشق خلال تلك الفترة. تتالت الأحداث السياسية عاماً تلو الآخر، وتزايد معها اهتمامي بالعثور على شابات وشبان يهتمون بالشأن العام بأي شكل ممكن ضمن معطيات كل مرحلة.
أواخر عام 2013، فئة لا بأس بها من الشباب قررت تجاهل الواقع، قولاً وفعلاً، واختارت البحث عن سعادتها الشخصية هنا وهناك، بحجة أنك ذرة لا تقدم ولا تؤخر، والتي أسميتها تجاوزاً الفئة (ع) من العدمية، بينما انقسمت فئة المعنيين بالحدث السياسي القائم بين مؤيد للنظام ومعارض له، ولكوني فرداً من المجموعة الثانية، كنت على دراية بالتقسيمات الحاصلة داخلها، فهناك الفئة (م) اختصاراً للعمل التنظيمي المسلح، والفئة (س)؛ فئة العمل التنظيمي السياسي السلمي، والفئة (ك)؛ فئة المشاركة بكل شيء دون التقيد بتنظيم محدد. اتسمت تلك المرحلة بتخاطر الأعين عند سماع الكلمات المفتاحية، ومن لا يتبجح بتشبيحه للسلطة، فغالباً ما يندرج في إحدى الفئات السابقة برجحان جلي وواضح للفئة (ك).
العام 2014 يحمل المزيد من الذعر لفئات الشباب بمختلف أنواعها، إلا أن الشوارع والأماكن الترفيهية بدأت بالانتعاش ليلاً، مشيرة إلى ازدياد أعداد الفئة (ع) (العدميين). انحسر التبجح بالتشبيح على الحواجز والمؤسسات العسكرية فقط، واضعاً تخاطر الأعين بخطر المخبرين وكاتبي التقارير. غابت المظاهرات بأماكن سيطرة السلطة في دمشق، كذلك غابت معها المجموعة (م)، التي ذهبت إلى مناطق سيطرة سلاح المعارضة. التحق شباب المجموعة (س) بالتشكيلات السياسية المعارضة كل بما يناسبه، في حين أن الجزء الأكبر من المجموعة (ك) وجدوا لأنفسهم مكاناً وسط منظمات المجتمع المدني غير المرخصة التي اكتسحت خلال سنة عمل واحدة دمشق وريفها بأعداد وتمويلات هائلة.
التدخل الروسي ينقذ السلطة من الانهيار العسكري أمام المجموعات الإسلامية المسلحة في أواخر عام 2015، التبجح بالتشبيح يعود قليلاً إلى الشارع، الفئة (ع) تتوسع، الفئة (م) تفقد رشدها وتبدأ بتخوين الفئة (س) التي بدأت بالتمزق بعد أن كان جزء غير قليل منها يراهن على تدخل خارجي يسقط النظام، لا العكس. جزء كبير من الفئة (ك) الملتحق بعمل منظمات المجتمع المدني يبدأ بالسفر إلى الخارج تاركاً مكانه لمن ينسحب من الفئة (س).
أواخر عام 2016، لا وجود للفئة (م) بعد الآن في دمشق، والفئة (س) تستنزف كوادرها ولا تستطيع استقطاب كوادر جديدة، الفئة (ك) غير موجودة إلا بشق العمل المدني وقد أصبحت ورشاته الخارجية باباً لتقديم اللجوء، ولم يعد الفرق واضحاً بين من يريد العمل عبر المنظمات بشكل فعلي، ومن يريد استغلالها للسفر، الفئة (ع) انشطرت إلى فئات.
أواخر 2019، مضت سنتان على انسحابي من الفئة (س)، ومحاولاتي المختلفة لاختراق الأفق المغلق للعمل السياسي. سبعة أجيال من الشباب على الأقل، يجلس قسم كبير منهم في دمشق متخفياً من الخدمة العسكرية الإلزامية من دون عمل أو نشاط أو مستقبل واضح، وقسم كبير آخر أصبح في دول اللجوء أو يخطط ليصبح كذلك، والباقون مجبرون على البقاء بحكم الواقع، يعدون الأيام من دون هدف، وقلة قليلة لا تستحق الذكر ما زالت تقامر بالعمل السياسي والمدني.
منتصف 2021، أجيال جديدة في قلب دمشق، لا تعنيها الاصطفافات السياسية، بخاصة الراديكالية منها، تبينت النفاق السياسي للسلطة والمعارضة وابتعدت منه لتقارب الأحداث الراهنة من زوايا مختلفة، تتحدث بالإجماع عن الأوضاع المعيشية السيئة وفقدان فرص العمل، تغرق صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بصور وشهادات تنتقد كوارث مؤسساتها التعليمية، تتلقى الأحداث ببرود أعصاب وتتعامل مع المستجدات من دون خوف، جزء كبير منها يعمل على أهدافه الخاصة، بسمة فردانية واضحة، بعدما التهمت الأهداف الجمعية الأجيال التي سبقتها ورمتها دون رحمة.
أجيال لا تغريها وظيفة الدولة، أو مسدس على الوسط، أجيال خارجة نسبياً عن عباءات الدين والسياسة، ولن يناسبها بالضرورة المستقبل الذي تحيكه السلطة القائمة لهذه البلد.
اليوم، أطرح على نفسي السؤال الذي كان يشغلني منذ وصولي إلى دمشق قبل تسعة أعوام: هل ما زالت فرص العمل السياسي في دمشق قائمة؟ أم أن فكرة التغيير السياسي باتت مجرد “أسطورة” أخرى، قفز فوقها الشباب بحكم الواقع وفقدان الأمل؟
نقلا عن درج