غير أن هذه الظاهرة تنامت كثيراً بعد ذلك، وباتت سمة لازمة تشمل، ليس مناطق المعارضة فحسب، بل حتى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام كما حدث أخيراً، في حلب، والضجة التي أثارها مراسل إحدى المحطات المقربة من النظام، بحديثه علناً عن عمليات سرقة و”تعفيش” واسعة قام بها مسلحون تابعون للنظام في المناطق التي استعادتها قواته من فصائل المعارضة في جنوب وغرب مدينة حلب. وكلمة “تعفيش” مشتقة من العفش، أي أثاث المنازل، إذ تتركز العمليات على سرقة الأثاث. لكنها لم تعد تقتصر عليها بل تشمل كل شيء يخطر على البال، سواء ما يخص المنازل، أم المصانع والورش والبساتين، وحتى أنه أقيمت في كثير من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام أسواق مخصصة لبيع هذه المسروقات في وضح النهار، ويحميها مسلحون سرقوها، وهم غالباً من الشبيحة والدفاع الوطني وضباط الجيش وأجهزة الاستخبارات، وأشهرها في ريف دمشق حي السومرية ومدينة صحنايا، وحي دويلعة، فضلاً عن سوق حمص، الذي عرف بسوق “السنة”، والأسواق الجديدة في حلب. وتشير بعض المعطيات إلى أن أكبر عمليات السرقة في دمشق كانت في منطقة عدرا العمالية، وبرزة البلد، ثم مدينة داريا بعد خروج أهلها منها، إذ بيعت ممتلكاتهم في بلدة صحنايا المجاورة.
ولا تقتصر عمليات السرقة على نقل أثاث المنازل، بما فيها من أبواب ونوافذ مع إطاراتها الخشبية فضلاً عن خزانات المياه والمازوت والصحون اللاقطة المثبتة على الأسطح، بل تشمل كل شيء، مثل الحنفيات والخلاطات وأدوات المطبخ وقوارير الغاز والثياب وحتى السيراميك، وأحياناً يتم هدم جدران المنازل بغية الحصول على أسلاك الكهرباء أو قضبان الحديد، فضلاً عن رؤوس الماشية في المناطق الريفية. واكتسب “المعفشون” خبرة واسعة في إنجاز عملياتهم بسرعة قياسية، مع درجة عالية من التنظيم، بسبب الممارسة المستمرّة، سواء من ناحية تمكنهم من إفراغ أحياء بأكملها في وقت قصير أو الإسهام في خلق الظروف المؤاتية لتفريغ الأحياء من سكانها تمهيداً لنهبها، عبر إشاعة أجواء من الخوف وإطلاق نار عشوائي لإثارة الذعر ودفع السكان لمغادرة منازلهم بأقصى سرعة. ويتعاون “المعفشون” مع ضباط وعناصر الحواجز الذين لا يسمحون للأهالي بإخراج أي شيء من ممتلكاتهم لـ”دواع أمنية”، حيث يطلبون لإخراج أي قطعة موافقة أمنية وموافقة مختار الحي، وإذا استطاع بعض الأهالي تأمين هذه الموافقات، يقوم عناصر الحواجز بمنعهم من دخول مناطقهم مجدداً حالما يخرجون منها.
وخلال معارك حلب أخيراً، جرت عمليات نهب واسعة في المدينة من قبل قوات النظام والمليشيات المتعاملة معها. وكانت تصريحات مراسل إحدى محطات التلفزة القشة التي قسمت ظهر البعير، واستدعت من سلطات النظام تبديل قائد الشرطة في المدينة، بينما توعد المحافظ، حسين دياب، بالضرب بيد من حديد على أيدي السارقين، لكنها تهديدات ظلت خاوية لأن شرطة المدينة لا تستطيع ردع المجموعات التي تقوم بهذه الأعمال، وبعضها مؤلف من ألفي مسلح، مثل تلك التي تتبع للمدعو علي الشلي والذي يقدم نفسه علناً بانه يتبع للضابط الشهير عند النظام، سهيل الحسن، الملقب بالنمر. وأوضح المراسل المتحدر من بلدة الزهراء في ريف حلب، أن عمليات “التعفيش” في حلب الجديدة ومنطقة منيان جنوب حلب التي استعادتها قوات النظام أخيراً من فصائل المعارضة، قامت بها جماعة “صقور الصحراء” وقوات “درع الأمن العسكري” وقوات “العشائر”، مشيراً الى أنهم لم يكتفوا بسرقة المنازل التي نزح أهلها عنها، بل اقتحموا المنازل المأهولة وأخرجوا ساكنيها وسرقوها. وأشار إلى أن المسلحين التابعين إلى علي الشلي سرقوا منطقة الـ3000 شقة.
وفي ضاحية الأسد، التي استعادها النظام قبل أيام، يقول الأهالي إن المليشيات الموالية للنظام منعتهم من الوصول إلى منازلهم حتى انتهت من إفراغ محتوياتها، حيث شاهد السكان سيارات السوزوكي وهي محملة بآثاث بعض البيوت. وشاهد السكان محتويات منازلهم تباع علناً في حي الفيض، والذي بات يسمى بسوق “التعفيش”. وقد ازدهر بعد يومين فقط من بدء الاشتباكات في حي الحمدانية، وبات مليئاً بالأثاث والأدوات الكهربائية المسروقة، حيث يقبل بعض الناس على الشراء منه بسبب الأسعار المنخفضة برغم تحذيرات أئمة المساجد عن عدم جواز بيع الأثاث المسروق أو شرائه. وأكدت صفحات موالية للنظام أن عمليات السرقة طاولت أيضاً منزل عضو القيادة القطرية لحزب “البعث”، شعبان عزوز.
والواقع أن هذه الظاهرة لا تقتصر على قوات النظام والمليشيات، بل امتدت لتشمل، ولو بنسبة أقل، مناطق المعارضة أيضاً، حيث بات شائعاً إمكانية نهب المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، خصوصاً مؤسسات الدولة، وهي ممارسات شملت فصائل المعارضة وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والمليشيات الكردية المسلحة. ويؤكد مراقبون أن عمليات “التعفيش” باتت تشكل بنية اقتصادية متكاملة، يشارك فيها العناصر الذين يقومون بالسرقة، والمقاولون الذين يستثمرون المناطق التي يدخلها جيش النظام، وصولاً إلى الباعة في الأسواق، سواء المحلية أو خارج الحدود. ويستخدم النظام هذه الظاهرة لتحقيق أكثر من هدف، بدءاً من مكافأة جنوده وعناصر المليشيات وتعويضهم عن رواتبهم المنخفضة وتحفيزهم للقتال طمعاً بـ”المغانم” التي سيحصلون عليها، إضافة إلى إفقار سكان مناطق المعارضة ومعاقبتهم.
العربي الجديد – عدنان علي