“صبرنا على روسيا نفذ”, هكذا أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “جون كيري”, بعد فشل جميع جهوده مع روسيا بشأن التوصل إلى وقف لإطلاق النار في سورية, وجاء هذا الإعلان الجديد بعد جولات عديدة من المباحثات التي عقدها وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” مع نظيره الروسي “سيرغي لافروف” في أماكن متعددة و وعلى مدار عدة شهور منصرمة في هذا العام قبل لحظة الإعلان المذكور.
وتبرز مسألة القصف الروسي لحلب بالمشاركة مع النظام السوري واستهداف المدنيين الأبرياء والمؤسسات الطبية والمدنية والخدمية والبنية التحتية داخل حلب المحاصرة, في مقدمة ملفات الخلاف بين إدارة البيت الأبيض وقيادة الكريملن فيما يخص الأزمة السورية, فالولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن روسيا تتعمد إفشال الخطط الأمريكية بإيجاد صيغة تعاون أميركي – روسي في سورية على الصعيدين العسكري والسياسي عن طريق إصرارها على صنع حسم عسكري لصالح قوات النظام ضد خصومه المعارضين في سورية, متجاهلة كل الدعوات الدولية الداعية لإبرام اتفاق هدنة من دوره إنقاذ الوضع الإنساني وإعادة إحياء مسار المفاوضات السياسية التي يدفع المجتمع الدولي باتجاهها في سورية.
لو ألقينا نظرة سياسية سريعة وخاطفة لمشهد قراءة هذا الحدث المستجد سنجد كما يقول العديد من الخبراء السياسيين والمراقبين للوضع السوري على مدار الخمس سنوات الماضية من عمر “الثورة السورية”, أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في سورية كانت تتماشى مع محورين متوازين تماما:
المحور الأول:
محور التركيز على محيط دائرة الأحداث ونتائج ومعطيات الأزمة السورية مع الابتعاد عن الاقتراب المتعمد لمركز الدائرة: فالولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية اكتفت بالتصريحات المعبرة عن سخطها وغضبها لجرائم النظام السوري بحق المدنيين العزل في سورية مع إعرابها عن دعمها لتطلعات الشعب السوري بإحداث تغيير جذري ينحو باتجاه الحرية وإرساء دعائم التجربة الديمقراطية في سورية بعيداً عن عقلية الإدارة الشمولية التي تنتهجها بعض الأنظمة الديكتاتورية في مناطق متفرقة من العالم, مع مراعاتها لمسألة الابتعاد عن تكريس آليات تضمن حماية تعهداتها بحماية خطوطها الحمراء في سورية, والتي تراجعت عنها في كثير من الأحداث المتتابعة في سورية, في سابقة جديدة لا تعبر عن النهج الأمريكي السابق الذي انتهجته الإدارات الأمريكية السابقة سيما تلك التابعة للحزب الجمهوري الأمريكي وذلك في مناطق مختلفة من العالم.
المحور الثاني:
هو إفساح المجال أمام العديد من الأطراف الأخرى للتدخل الفعلي في سورية: من يراقب إدارة الأزمة من قبل الولايات المتحدة في سورية خلال السنوات المنصرمة, سيلاحظ أن الإدارة الأمريكية وفي حادثة تكاد تكون بالأولى من نوعها منذ عدة عقود من الزمن, قد غضَّت الطرف عن الدعم الكبير الذي تقدمه كل من إيران وروسيا والصين وبعض الأحزاب المحسوبة على مشاريع الدول في المنطقة دعما كبيرا للنظام السوري, حتى تعدَّت سياستها مسألة الدعم العسكري له لتتحول إلى قوات احتلال تهيمن على كل القرارت السياسية والعسكرية للنظام ولا سيما روسيا بعد أن قبلت إيران باستلام روسيا للملف الفعلي لإدارة الحرب في سورية, وذلك نظرا للفرق الكبير بين إمكانيات البلدين مع السماح للمشروع الإيراني بالاستمرار في سورية تحت كنف “الاحتلال الروسي”, مع تركيز الولايات المتحدة الأمريكية فقط على مسألة حربها على الإرهاب في سورية, بمشهد يعبر عن الرضا الضمني للإدارة الأمريكية باستمرار الحرب الدائرة في سورية, فضلا عن ممارستها لضغوط كبيرة لإجبار المعارضة على القبول بالعديد من الشروط البعيدة عن تطلعات الشعب السوري الثائر, وعجزها عن ممارسة أي ضغوط على النظام السوري في نفس الوقت.
بالعودة لأبعاد الخبر الجديد عن قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتعليق تعاونها مع روسيا, نجد أن هذه الخطوة تُقرأ من جوانب عديدة قد تبدو واضحة في بعض تفاصيلها, وقد تبدو خفية في خباياها الأخرى, ولكن هل من المعقول أن إدارة الرئيس أوباما هي إدارة ضعيفة لهذه الدرجة, حتى تبدو بمظهر العاجز عن إجبار النظام وروسيا وإيران إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن ومواثيق المنظمات التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة فيما يخص الانتهاكات التي تحدث في سورية؟
لماذا يصر وزير الخارجية الأمريكية وذلك من خلال التسجيل الصوتي الذي تم تسريبه إلى الصحافة الأمريكية, على الضغط الخفي على وفود المعارضة السورية بالقبول بالمرحلة الانتقالية السياسية التي يكون “الأسد” جزءً من الحل, بالشكل الذي يلبي مطامح كلٍ من النظام السوري ومن خلفه روسيا وإيران؟
الإجابة عن هذه الأسئلة هي مجرد تكهنات لا تعبر إلا عن وجهة نظر الشخص أو الجهة التي تجيب, ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اللعبة الدولية الفعلية على الأرض لا تعبر عن المواقف السياسية الدولية الراهنة, وأن الساحة العسكرية السورية هي التي تلعب دورا كبيرا في تحديد نتائج أي مسار سياسي تتوافق عليه جميع الأطراف الدولية الفاعلة في سورية, فالأرض السورية اليوم تبدو أشبه بمناطق نفوذ تتقاسمها تلك الدول الدولية والإقليمية في سورية: الولايات المتحدة الأمريكية لديها شركاء على الأرض كالأحزاب الكردية وبعض الفصائل العسكرية المحسوبة على الثورة, فضلا عن التواجد الفعلي في بعض النقاط العسكرية على شكل قواعد محدودة في كلٍ من “الرميلان” و”كوباني-عين العرب”في شمال وشرق سورية, وروسيا تهيمن بشكل واضح على أجزاء واسعة من الأجواء السورية بالتنسيق مع التحالف الدولي, إضافة إلى تواجدها الكبير في قواعدها وبوارجها وسفنها الحربية في الساحل السوري, وإيران موجودة منذ البداية بمليشياتها وذراعها الطولى في المنطقة وهو “حزب الله اللبناني”, وتحاول استمرار تطبيق سياسة التهجير والاستبدال في دمشق ومحيطها, وتركيا أدخلت قواتها بشكل مباشر وبقبول دولي جزئي وتام في الشمال السوري.
إذن سورية تبدو فعليا بأنها دولة لتقاسم النفوذ بصورة معقدة ومتشابكة, يحترم فيها كل من تلك الأطراف مناطق نفوذهم بشكل شبه كامل, إلا حرمة الدم السوري فهي بعيدة عن كل الحسابات, وبما أن الخلاف السياسي بين الولايات المتحدة وروسيا قد وصل إلى نهايته, وصبر الولايات المتحدة في سورية قد نفذ, كيف تتفاهم هاتان الدولتان في الخفاء على مسألة التنسيق العسكري بينهما في مناطق نفوذهما في سورية؟
هناك من يقول: أن الولايات المتحدة الأمريكية وعن طريق سياسة الابتعاد عن المركز وتحييد الدور العربي في دعم الثورة السورية إلا بالقليل, تقوم بنية مبيتة لتوريط كل الأطراف الدولية في ساحة حرب طويلة الأمد يتم استنزاف قدراتها فيها شيئا فشيئا, لذلك تحافظ على وجود عسكري محدود حاليا لها في الأرض السورية, وتستمر بإفساح المجال لروسيا بالتورط في مقدراتها العسكرية المكلفة للغاية, وبمعنى آخر”الوضع العسكري في سورية, هو تحت المجهر الأمريكي”,
وأن تظاهر السلك الدبلوماسي الأمريكي بالعجز عن ردع العدوان الروسي في سورية, بحجة عدم امتلاك المبررات المناسبة, هي مجرد حجج لشراء الوقت وترحيل الأزمة إلى أجل غير مسمى, طالما أنها بعيدة عن “تهديد الأمن القومي لإسرائيل”.
وثمة من يقول: أن الولايات المتحدة الأمريكية فعلا هي تعيش حالة ذهول من تعاظم الموقف الروسي ونفوذه الكبير في سورية, سيما أن الروس يطمحون لنشر قوات عسكرية دائمة لهم في سورية, وأن روسيا تعيش حالياً فترة انتشاء حقيقية تمهِّد لقيام “المارد الروسي” وعودته من جديد للساحة الدولية كقوة عظمى والبداية كانت من سورية, ونتيجة لهذا الواقع المفروض فإن الولايات المتحدة فعلا هي عاجزة حاليا عن إيجاد آليات جديدة تستطيع من خلالها تحجيم الدور الروسي في سورية, بعيدا عن أي مغامرة قد تؤدي إلى اندلاع حرب دولية جديدة طاحنة ستدور رحاها على الأرض السورية.
وعلى كل الأصعدة, ومن خلال كل الاحتمالات, وأمام كل الخيارات, نسأل:
لماذا وكيف تحولت الثورة السورية إلى الطريق الذي لا يراعي أي من مصالحها ومصالح الشعب السوري, في ظل كل تلك الحسابات؟
وهل ستكون الثورة التي أرادها السوريون لنيل حقوقهم, هي الشرارة التي ستلهب الشرق الأوسط بكامله وحتى العالم؟
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود.