طالما حير الموقف التركي المتذبذب والمتغير من مجريات الأحداث في سورية العديد من المحللين السياسين الذين شرعوا بالكلام والحديث عن انقلابة تركية كاملة ضد الثورة السورية تماشياً مع الرغبة الروسية والإيرانية وتلبيةً لمصالحها التي باتت مهددة في أعقاب الغضب الروسي والاستدارة الأمريكية والتوتر السياسي مع دول الإتحاد الأوروبي, لذلك لم تجد تركيا سبيلاً للحفاظ على بعض المكاسب في سورية, والتي من شأنها حماية الأمن القومي التركي والحفاظ على وحدة الأراضي التركية من خطر التقسيم الذي تخشاه أنقرة خصوصاً بعد تلقي الوحدات الكردية الإنقصالية دعماً عسكرياً وسياسياً كبيراً من كل من واشنطن وموسكو على حد سواء حتى لو اختلفت المصلحة المرادة من هذا الدعم..
لذلك ضغطت أنقرة مرغمة على العديد من الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية في الشمال تحديداً للذهاب إلى مؤتمر أستانة الذي صنعته موسكو وتحكمت بكل تفاصيله حتى اعتبره العديد من المعارضين السوريين أنه اتفاق “الاستسلام” الذي سيضيع تضحيات الشعب السوري على مدار ست سنوات من عمر الثورة.
ومع ذلك راهن العديد من السوريين على فشل اتفاق استانة نتيجة عوامل طارئة على الصعيد الداخلي والخارجي, وهذا ما حصل بالفعل, حيث بادرت المعارضة إلى امتلاك زمام المبادرة بالهجوم على الأرض من جديد, وأشعلت الجبهات في كل من دمشق وريف حماة واللاذقية..
وعلى الصعيد الدولي بدأ الموقف الأمريكي “الضبابي” يتضح مساره يوماً بعد يوم, وخصوصاً بعد الهجوم الكيماوي الذي قام به النظام السوري ضد المدنيين في مدينة خان شيخون وبتغطية روسية, حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية بالرد الفوري على هذا الهجوم من خلال قصف مطار الشعيرات بصواريخ “التوما هوك” بعيدة المدى أعقبها تصريحات جديدة من قبل مسئولين بارزين في إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تتحدث معظمها عن ضرورة حشد الرأي العام الدولي لإيقاف مجازر النظام بحق المدنيين السوريين وضرورة فرض التسوية السياسية القائمة على رحيل رئيس النظام “بشار الأسد”.
كان للموقف الأمريكي الجديد تأثير واضح على إعادة الدور التركي الفاعل في الأزمة السورية, خصوصاً مع حديث واشنطن عن دور محتمل لتركيا في معركة الرقة ضد تنظيم الدولة الإسلامية, وهنا بدأت تركيا تتخلى عن تبني الوجهة الروسية القائمة على تسوية سياسية شكلية يبقى فيها النظام السوري بكل أركانه ورموزه, وعادت تركيا لتتبنى موقفاً متشدداً جديداً ضد النظام السوري, فبدأت الدعوات من داخل الحكومة التركية تصدر بضرورة رحيل رئيس النظام السوري “بشار الأسد” وضروة إقامة مناطق آمنة في سورية وفرض حظر للطيران فيها..
يعتبر العديد من المحللين السياسيين هذه التصريحات التركية الجديدة بمثابة “الإسفين” الأخير الذي دقه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في نفس العلاقات التركية-الروسية التي عاشت نوعاً من “الود الحذر”, وعودته للتنسيق الكامل مع حليفة تركيا القديمة الاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية.
ربما عادت القناعة من جديد للمسؤولين الأتراك بضرورة التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الطرف الفاعل الأكبر في الأزمة السورية أملاً منها بأخذ موقف أمريكي جديد من شأنه إضعاف الوحدات الكردية, وإيكال المهمة لفصائل عسكرية مدعومة من أنقرة على الأرض, وهذا ما أشار إليه السنتاتور الأمركي “جون ماكين” عندما قال:
“السوريون هم من سيحررون بلادهم وليس الأمريكيون” في نقلة جديدة تعبر عن توجه أمريكي جديد لبناء تحالف استراتيجي مع فصائل الجيش الحر بالطريقة التي تلبي الرغبة التركية القديمة.
على الجانب الآخر لم يصدر موقف روسي جديد يتحدث عن الانفلاتة التركية في أستانة, ربما لأن التفاهمات الروسية خرجت من نطاق الإقليم وأصبحت على مستوى العالم مع بروز دور أمريكي جديد في المنطقة يبدو وكأنه سيفتح العديد من الأبواب التي تؤدي بنا إلى أحدث كثيرة غير متوقعة, فالصراع في سورية هو صراع مصالح بامتياز, والجميع يريد أن يكسب فيه..
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي..