تقوم الدنيا ولا تقعد منذ أسابيع، بسبب أخبار كوباني، وهي التي ما زالت تشهد اجتياحاً متواصلاً من داعش، ترافق مع تهجيرٍ جديد، طاول عشرات آلاف السوريين، ذوي الأصول الكردية.
كوباني الكردية، أوعين العرب، أو عين الإسلام الداعشية، تثير سوقاً مفتوحة لكل أنواع التدخل. فالتحالف الدولي يتدخل حالياً من الجو، وتركيا مطالبة بالتدخل في البر، أما إيران، فأعلنت استعدادها للتدخل، لكن بشرط التنسيق مع نظام الأسد! وذلك كله، لأن كوباني تثير حساسية جيو سياسية وقومية عالية، كونها تضم أغلبية كردية ذات مشروع كياني، لا بد له أن ينعكس داخل حدود تركيا نفسها، بل صار يهددها باضطراباتٍ قومية متصاعدة.
من هنا، استعدت السلطات التركية للتدخل، وحصلت على موافقة برلمانها، وحشدت القوات على الحدود، لكنها أعلنت أنها لن تقدم عليه، إذا لم يكن ضمن استراتيجية تتضمن إقامة منطقة عازلة وحظر جوي لا يسمحان للأسد بالاستفادة من ضرب داعش، كما لا يسمحان بإقامة كانتون كردي على حدودها، بل يشكلان مناطق آمنة لمئات ألوف السوريين الهاربين من مذابح النظام.
هكذا، يبدو أن المسألة السورية الأصلية قد دخلت، بصورة أكثر وضوحاً، في سياق بالغ التوتر. ذلك أن كوباني، في الواقع، إذا كانت تكرر جوانب فاجعة في المأساة السورية التي يستمر فيها موت السوريين وتدمير بلدهم، منذ حوالى أربع سنوات، فإنها أصبحت نقطة تقاطع وتحول لمصالح القوى الإقليمية والدولية، كون تركيا الشديدة الاهتمام بضبط الطموحات الكردية لإنشاء كيانٍ سيهدد وحدتها الوطنية، تتقدم، أيضاً، بصفتها عضواً في الحلف الأطلسي، لحماية حدوده الشرقية من تهديد طموحات إيران، وأصدقائها الجدد في روسيا، وكان نصب شبكة صواريخ الباتريوت علامة على ذلك. ومن جهتها، تساوم إيران على جبهتها الأمامية السورية، في إطار مصاحب لمفاوضات الملف النووي، وهو ملف ما زالت أميركا راغبة في تسويته معها، واستكشاف إمكانات ضبط إيران، الدولة والمصالح، في إطاره، بينما ارتفعت درجة المساومة الإيرانية إلى درجة التصريح، على لسان معاون وزير خارجيتها، أن أمن إسرائيل سيتهدد في حال سقوط نظام حليفها الأسد.
وبانتظار تطور الأوضاع، واحتمال انفتاحها على متغيراتٍ، لا تستبعد إعادة رسم جديدة للخرائط السياسية والمجتمعية في شمالي سورية، يبدو أن السوريين، أنفسهم، صاروا أكثر، من أي وقت مضى، موضوعاً للعبة، ليس لهم دور فيها إلى هذا الحد أو ذاك، ومن ذلك استمرار المعارك والقصف والتدمير في كل مكان في أنحاء سورية اليوم، من الحارّة إلى جوبر والوعر وحلب. والموتى فيها سوريون في الأعم والأغلب، على الرغم من مشاركة أجانب من حزب الله وداعش. وهم، كما يعلم الجميع، لا يقاتلون من أجل حرية السوريين، بل من أجل استبدادٍ ليس فيه فرق بين ولي الفقيه أو الخليفة! ومن ذلك أيضاً، أن اجتماع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية منشغل بالصراع حول تشكيل حكومة مؤقتة، لا تملك من أمور سيادتها شيئاً، بينما كان يجدر بالائتلاف الاهتمام بدوره السياسي، الذي يفترض فيه دفع الحرب الجارية ضد الإرهاب لما فيه مصلحة سورية والسوريين.
وهناك فشل، أو تعثر، مفاوضات التوصل إلى هدن مؤقتة في داريا ومساكن عدرا العمالية وغيرها، وخصوصاً في الوعر الذي يشهد حصاراً وقتلاً تدريجيا لحوالى مئتي ألف مدني، مع ملاحظة انسحاب الوسيط الإيراني وتركه للتدمير، بعكس ما حدث في مفاوضات فك الحصار عن حمص القديمة. وهي مفاوضات استثمرت العمل السياسي، إلى جانب العمل العسكري بين أوساط السوريين، وسبق لها اكتشاف توسطات بينهم ومحاولة إيجاد مناطق خضراء، وسط جبهات القتال الدامية، وذلك في جبهات استقر فيها شكل من التوازن بين جانبي الصراع، وأمكن استثمار تواصلات مختلفة، لما فيه فائدة حياة الناس والمجتمع المحلي المغلوب على أمره، مثل تبادل المعتقلين والمخطوفين، وفك الحصار وتمرير قوافل التموين والمواد الطبية إلخ، وكلها أمور عرفها تاريخ الحروب والصراعات البشرية، وأثبتت حيوية المجتمعات وقدرتها على التكيف، على الرغم من هول الحروب وآلامها، وعلى الرغم من مرارة التجربة السورية التي كشفت خروج النظام عن قيم كل تراث إنساني في هذا الشأن.
التدخل أو الدور السوري مفقود اليوم، واستعادته مسؤولية من بقي لديهم حرص على الوطنية السورية، أينما كانوا وفي أي موقع، وخصوصاً في جوانب الصراع. ومن المفهوم أن أحداً لن يعطيهم هذا الدور، ولن يتحقق إلا بمبادرتهم أنفسهم، وهو دور لا يعني، اليوم، إلا إنقاذ ما تبقى من معنى سورية وطناً لجميع أبنائه، وبغض النظر عن الأهداف البعيدة المدى لكل منهم، كما أنه يمكن أن يبدأ من تحت ومن الأطراف، ولا يحتاج دوماً إلى أن يبدأ من فوق ومن الرأس، فيفتح بذلك باباً لإقامة هدن ومصالحات ومناطق خضراء، في كل مكان متاح من سورية، بينما يكون على كل السوريين الانصراف لدحر وحش الإرهاب الذي يكاد أن يلتهمهم جميعاً.