شهدت الأعوام الأخيرة من عمر الثورة السورية العديد من التغيرات السياسية التي انعكست على الأرض من الناحية العسكرية, بل تغيرت خارطة التوزع العسكري لتتحول إلى مشهد جديد يجسد مشاريع الدول المؤثرة في الملف السوري..
روسيا تدعم قوات النظام السوري وتزيد من تواجد قواتها لتوسع نفوذها العسكري على الأرض يوماً بعد يوم, وتتمسك إيران بمشروعها القديم – الجديد لترسم حدوداً تكاد تبدو واضحة لخارطة امتداد نفوذها داخل سورية سيما في محيط العاصمة السورية دمشق, وعلى الجانب الآخر كثر الحديث مؤخراً عن نية الولايات المتحدة الأمريكية البدء بتفعيل نشاطها العسكري داخل الأراضي السورية في الجنوب والشمال.
فبوادر دعم قوات خاصة أردنية مع مجموعات من الثوار تم تدريبهم في الأردن باتت تلوح في الأفق ضمن خطة الحرب التي أعلنتها إدارة ترامب على تنظيم الدولة الإسلامية في سورية, ولكن بالشكل الذي يفرز العديد من الشكوك حول نوايا الولايات المتحدة الامريكية في احتلال الشرق السوري الغني بآبار النفط, ومن ناحية أخرى لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية يوماً عن دعمها العسكري لقوات سورية الديمقراطية في الشمال السوري, والتي تراها أنقرة خطراً كبيراً يهدد وحدة الأراضي التركية مستقبلاً, بل تصفه بالمؤامرة القادمة من الجنوب, لذلك حاولت تركيا أن تجد مجالاً مناسباً لنفسها لتلعب على وتر “مكافحة الإرهاب”, فشكلت ما يعرف بعملية “درع الفرات” والتي قام بها الجيش التركي مع عدد من الفصائل المسلحة التابعة لقوات المعارضة السورية ضد تنظيم الدولة الإسلامية, وتوقفت حدودها عند مدينة الباب, في حين بقيت مدينة منبج في قبضة قوات سورية الديمقراطية التي تعدها واشنطن من جديد لخوض غمار معركة الرقة ضد التنظيم الذي أرهقته الجبهات المتعدة.
ولأن تركيا ما زالت تعول على عودة الثقة إلى علاقتها من الولايات المتحدة بالنظر للمصالح الكبيرة التي تربط البلدين, فهي تحاول حتى الرمق الأخير إقناع واشنطن برفع يدها عن دعم “الأكراد” في معركة الرقة, وإسناد المهمة للقوات التركية وحلفائها من فصائل المعارضة السورية, وذلك من أجل دق المسمار الاخير في نعش أحلام الأكراد الانفصالية..
وقد تحدثت مجموعة من المصادر المختلفة في الآونة الأخيرة عن مساع أمريكية بهدف خلق تقارب تركي – كردي, بهدف إيجاد صيغة تفاهم عسكري على الأرض بين حلفاء الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة بالشكل الذي يراعي مصالح أنقرة بالمقام الأول, إلا أن الغارات التي شنتها الطائرات التركية على المواقع الكردية شمال شرق سورية, وشمال غرب العراق مؤخراً, جاءت لتقضي على فرص تسوية اشتغل عليها الأمريكيون خلال الشهرين الماضيين وحققت تقدماً ملموساً على الجانب الكردي.
حيث جاء الرد التركي سريعاً بالغارات عبر الطائرات الحربية ليقتل قرابة مائة مقاتل كردي ويدمر مقار عسكرية ومحطات إذاعة, بالإضافة إلى تدمير العديد من الآليات والعربات العسكرية, وتسببت بمواقف عراقية وكردية وأمريكية عالية النبرة بوجه تركيا, قبيل زيارة الرئيس التركي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السادس عشر من الشهر المقبل.
ولابد من الإشارة إلى قرار الرد التركي بعد أن احتجت أنقرة على صدور بيان من البيت الأبيض يعتبر المجازر بحق الأرمن من فظائع التاريخ الإنساني, وهذا إن دل على شيء فهو يدل على توجس تركيا المشروع من لعبة أمريكية كبيرة تبدأ بإجراء تفاهم مرحلي بين الأتراك والأكراد وتنتهي بانقلابة أمريكية متوقعة ضد الدور المحوري لتركيا في منطقة الشرق الأوسط, ليعود السؤال مجدداً ليطرح حول مستقبل العلاقات التركية – الامركية في المستقبل القادم..
وبالعودة إلى موضوع المساعي الأمريكية حول تقارب تركي – كردي, فقد تحدثت تسريبات عن اجتماع ثلاثي عقد في أول الثلث الأخير من شهر نيسان – ابريل من العام الحالي في القاعدة العسكرية الأمريكية الرئيسية شمال شرق سورية في حقل الرميلان النفطي في مدينة المالكية, ضم وفوداً تركية وأمريكية وكردية, لمناقشة مشروع تعاون في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية تلتزم به المجموعات الكردية التي مثلها حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري,ونصّت المسودة على التزام الجانب الكردي بإخراج كلّ عناصر حزب العمال الكردستاني من صفوفه ومناطقه، وإزالة صور زعيمه عبدالله أوجلان من مقارّه، واستبدال علمه ذي النجمة الواحدة بعلم بثلاثة نجوم أو علم قوات سورية الديمقراطية، وتشكيل لجان تفتيش أميركية كردية لملاحقة مشتركة لحزب العمال الكردستاني.
وعلى المستوى السياسي إعلان الحزب وجناحه العسكري إنهاء كل علاقة له بحزب العمال الكردستاني وتأكيد هويته كمكوّن من المعارضة السورية المعتدلة، وتخلّيه عن الدعوة لقيام كردستان منفصلة عن سورية، أو الدعوة للفدرالية، والقبول بصيغة تضمن اعترافاً بحقوق الأكراد ضمن دستور سوري جديد. وكان الإعلان من الجانب الكردي بقبول المشروع الأميركي ثمرة اجتماعات كردية – كردية تمّت برعاية رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، ضمّت حزب الاتحاد الديمقراطي وأحزاب المجلس الوطني الكردي التي تنسّق مع تركيا وتشارك في مؤتمر الرياض للمعارضة.
يبدو أن تركيا من خلال مسيرتها الطويلة في حربها مع المسلحين الأكراد, قد خبرت هكذا نوع من محاولات مغلفة بإطار سياسي لإعطاء نوع من الشرعية لحزب كردي مسلح مصنف على قائمة الإرهاب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها, الأمر الذي لم يبلغ سقف المطالبات التركية لواشنطن بالإبتعاد التام عن دعم المليشيات الكردية, ليعود الجدل من جديد حول ردة فعل واشنطن إيزاء القرار التركي القوي..
حازم الحلبي – مجلة الحدث.