واشنطن بوست
في المخيلة المعاصرة, لا يوجد ما هو أكثر رعبا من الأسلحة المتطورة. أفلام الرعب مليئة بالطائرات المدمرة والفيروسات المهندسة و الحواسيب المتمردة التي تتولى السيطرة على سفن الفضاء. ولطالما كان كابوسنا الأمني متعلق بالأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية. المصطلح الذي عادة ما نستخدمه لوصف هذه الفظائع المعاصرة هو “أسلحة الدمار الشامل” وهو مصطلح يحوي انطباعات شيطانية كما أنه أمر مبتكر يمكن أن يؤدي إلى قتل آلاف البشر في لحظة.
ولكن الهاجس الجديد الذي لدينا الآن مرعب جدا, يبدو أننا نسينا أن هناك الكثير من الطرق القديمة التي يمكن أن تستخدم لقتل عدد كبير من الناس. بالطبع هناك سلاح واحد للدمار الشامل قديم جدا ومنخفض التكنولوجيا لا يحوي بارودا حتى, ناهيك عن الأدوات القاتلة التي نشير إليها كأسلحة تقليدية. هذه الطريقة تسمى التجويع.
في أوروبا العصور الوسطى, كان التجويع هو النتيجة الفعلية للحصار. حيث يحيط الجيش بالقلعة أو المدينة المسورة ويمنع عنها الغذاء ومن ثم ينتظر النتائج. وبهذا يبدأ السكان بالضعف. ويفقدوا شعرهم وأسنانهم وبالتالي يستسلمون أو يموتون بأعداد كبيرة.
في القرن العشرين, استخدم الطغاة التجويع ليس كتكتيك في المعارك فقط بل وفي قتل الناس الذين لا ينسجمون مع رؤيتهم للمجتمع المثالي. قبل اللجوء إلى الوسائل الأكثر صناعية, استخدم هتلر التجويع لقتل اليهود, حيث كان يقوم الجنود النازيون بوضعهم في “غيتوهات” ويغلقون عليهم الأبواب ويقتلون الأطفال الذين كانوا يحاولون تهريب الطعام عبر المجاري. واستخدم ستالين التجويع لقتل الفلاحين الأوكرانيين, حيث كان الجنود السوفييت يستولون على محاصيلهم ويصادرون الطعام من أماكن حفظها ويغلقون الطرق بحيث لا يمكن لشيء الوصول لهم. وكما هو الحال في القرون الوسطى, كان اليهود في غيتو لودز والفلاحين في مقاطعة خاركيف يشعرون بالضعف, ويبدأون بخسارة شعرهم وأسنانهم ومن ثم يموتون. الملايين من البشر قتلوا نتيجة لذلك, دون أي نفحة من غاز السارين أو أي قطرة من البلاتينيوم.
في وقتنا الحالي, فإن “الموت بالجوع القسري” يبدو شيئا من نشرة إخبارية قديمة. ولكنه ليس كذلك. حاليا, وفي القرن الواحد والعشرين, يستخدم الدكتاتور بشار الأسد هذه الطريقة مرة أخرى. بينما ينشغل المجتمع الدولي في مساومات حول أسلحتة الكيماوية, كوابيس العصر الحديث , يتبع الأسد نموذج أسلافه من العصور الوسطى والقرن العشرين ويجوع متعمدا آلافا من أبناء شعبه حتى الموت.
لأن الأسد يقول أنه لا يريد إطعام المتمردين المسلحين, تقف شاحنات مملوءة بالغذاء على أطراف مدينة حمص المحاصرة, حيث يقبع عدد غير معلوم من المدنيين دون أي مساعدات منذ أسابيع طويلة. والنتيجة هي نفسها فيما لو كانوا موجودين في “لودز غيتو”. قس هولنداي لا زال داخل مدينة حمص قال إن الناس تصاب بالجنون حرفيا, وأضاف :”الرضع هم أكثر من يعاني. الأمهات المرضعات لا يمكن لهن تغذية أبنائهن ويشعرن بهزال شديد نتيجة الجوع. نحن نبحث في كل مكان عن الحليب وعندما نجده نخلطه مع الماء”.
في نفس الوقت, هناك حوالي 20000 لاجئ يعيشون في مخيم اليرموك قرب دمشق يزدادون ضعفا, ويفقدون شعرهم وأسنانهم, ويموتون. خلال المجاعة الأوكرانية في الثلاثينات, أكل الجوعى الحشرات وأوراق الشجر والعشب ونجحوا في البقاء أحياء. في مخيم اليرموك يأكل الناس الآن القطط والصبار والعشب للبقاء أحياء. أحد شهود العيان قال إن بعض الناس هناك يعيشون على الماء فقط. ويضيف :” بعض الأحيان نشرب بعض الماء والسكر أو بعض الملح ثم نذهب للنوم. ولكن عندما نذهب إلى الشارع في اليوم التالي ربما تجد أشخاصا قرب منزلك ماتوا”. وهنا أيضا ترفض الحكومة السماح بمرور شاحنات الإغاثة بحجة أن هناك “إرهابيون” موجودون في الداخل.
الأسوأ من ذلك قادم, مع استمرار الحرب, فإن سياسات التجويع سوف تزداد تعقيدا. انتقاما لحصار حمص, حاصر المتمردون السوريون مجموعة من القرى قرب حلب. في أماكن أخرى, الحصار الحكومي أكثر مرونة, على الرغم من أن الجميع يعلم أنه من الممكن تشديد الأمور إذا لزم الأمر. في هذه الحرب, التجويع تحديدا تكتيك فعال وأداة سياسية أيضا. فهي لا تساعد الجيوش التي تعاني من نقص السلاح فقط, بل يمكن للتجويع أن يقضي حرفيا على المعارضين. الأشخاص الذين يعانون من الجوع – أو الموت- لن يعودوا للقتال.
قبل كل شئ, التجويع, وعلى خلاف السلاح الكيماوي, مفيد في هذه الحرب لأنه لا يرقى إلى المستويات العالية التي تثير القلق الدولي. مجموعة من وزراء الخارجية أدانوا استخدام التجويع في سوريا, ولكنهم لحد الآن لم يطلقوا أية حملات للرأي العام أو تغطيات كبرى في وسائل الإعلام. ولم يؤد ذلك إلى إثارة الجدل حول التدخل الإنساني. ولهذا فإن الأمور لا زالت مستمرة, بالنسبة لمرتكبي هذا الأمر فإنه بطئ و طريقة أكثر أمنا من القنابل النووية. ولكن ذلك لا يعني أنه أقل فتكا بالنسبة للضحايا.
في المخيلة المعاصرة, لا يوجد ما هو أكثر رعبا من الأسلحة المتطورة. أفلام الرعب مليئة بالطائرات المدمرة والفيروسات المهندسة و الحواسيب المتمردة التي تتولى السيطرة على سفن الفضاء. ولطالما كان كابوسنا الأمني متعلق بالأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية. المصطلح الذي عادة ما نستخدمه لوصف هذه الفظائع المعاصرة هو “أسلحة الدمار الشامل” وهو مصطلح يحوي انطباعات شيطانية كما أنه أمر مبتكر يمكن أن يؤدي إلى قتل آلاف البشر في لحظة.
ولكن الهاجس الجديد الذي لدينا الآن مرعب جدا, يبدو أننا نسينا أن هناك الكثير من الطرق القديمة التي يمكن أن تستخدم لقتل عدد كبير من الناس. بالطبع هناك سلاح واحد للدمار الشامل قديم جدا ومنخفض التكنولوجيا لا يحوي بارودا حتى, ناهيك عن الأدوات القاتلة التي نشير إليها كأسلحة تقليدية. هذه الطريقة تسمى التجويع.
في أوروبا العصور الوسطى, كان التجويع هو النتيجة الفعلية للحصار. حيث يحيط الجيش بالقلعة أو المدينة المسورة ويمنع عنها الغذاء ومن ثم ينتظر النتائج. وبهذا يبدأ السكان بالضعف. ويفقدوا شعرهم وأسنانهم وبالتالي يستسلمون أو يموتون بأعداد كبيرة.
في القرن العشرين, استخدم الطغاة التجويع ليس كتكتيك في المعارك فقط بل وفي قتل الناس الذين لا ينسجمون مع رؤيتهم للمجتمع المثالي. قبل اللجوء إلى الوسائل الأكثر صناعية, استخدم هتلر التجويع لقتل اليهود, حيث كان يقوم الجنود النازيون بوضعهم في “غيتوهات” ويغلقون عليهم الأبواب ويقتلون الأطفال الذين كانوا يحاولون تهريب الطعام عبر المجاري. واستخدم ستالين التجويع لقتل الفلاحين الأوكرانيين, حيث كان الجنود السوفييت يستولون على محاصيلهم ويصادرون الطعام من أماكن حفظها ويغلقون الطرق بحيث لا يمكن لشيء الوصول لهم. وكما هو الحال في القرون الوسطى, كان اليهود في غيتو لودز والفلاحين في مقاطعة خاركيف يشعرون بالضعف, ويبدأون بخسارة شعرهم وأسنانهم ومن ثم يموتون. الملايين من البشر قتلوا نتيجة لذلك, دون أي نفحة من غاز السارين أو أي قطرة من البلاتينيوم.
في وقتنا الحالي, فإن “الموت بالجوع القسري” يبدو شيئا من نشرة إخبارية قديمة. ولكنه ليس كذلك. حاليا, وفي القرن الواحد والعشرين, يستخدم الدكتاتور بشار الأسد هذه الطريقة مرة أخرى. بينما ينشغل المجتمع الدولي في مساومات حول أسلحتة الكيماوية, كوابيس العصر الحديث , يتبع الأسد نموذج أسلافه من العصور الوسطى والقرن العشرين ويجوع متعمدا آلافا من أبناء شعبه حتى الموت.
لأن الأسد يقول أنه لا يريد إطعام المتمردين المسلحين, تقف شاحنات مملوءة بالغذاء على أطراف مدينة حمص المحاصرة, حيث يقبع عدد غير معلوم من المدنيين دون أي مساعدات منذ أسابيع طويلة. والنتيجة هي نفسها فيما لو كانوا موجودين في “لودز غيتو”. قس هولنداي لا زال داخل مدينة حمص قال إن الناس تصاب بالجنون حرفيا, وأضاف :”الرضع هم أكثر من يعاني. الأمهات المرضعات لا يمكن لهن تغذية أبنائهن ويشعرن بهزال شديد نتيجة الجوع. نحن نبحث في كل مكان عن الحليب وعندما نجده نخلطه مع الماء”.
في نفس الوقت, هناك حوالي 20000 لاجئ يعيشون في مخيم اليرموك قرب دمشق يزدادون ضعفا, ويفقدون شعرهم وأسنانهم, ويموتون. خلال المجاعة الأوكرانية في الثلاثينات, أكل الجوعى الحشرات وأوراق الشجر والعشب ونجحوا في البقاء أحياء. في مخيم اليرموك يأكل الناس الآن القطط والصبار والعشب للبقاء أحياء. أحد شهود العيان قال إن بعض الناس هناك يعيشون على الماء فقط. ويضيف :” بعض الأحيان نشرب بعض الماء والسكر أو بعض الملح ثم نذهب للنوم. ولكن عندما نذهب إلى الشارع في اليوم التالي ربما تجد أشخاصا قرب منزلك ماتوا”. وهنا أيضا ترفض الحكومة السماح بمرور شاحنات الإغاثة بحجة أن هناك “إرهابيون” موجودون في الداخل.
الأسوأ من ذلك قادم, مع استمرار الحرب, فإن سياسات التجويع سوف تزداد تعقيدا. انتقاما لحصار حمص, حاصر المتمردون السوريون مجموعة من القرى قرب حلب. في أماكن أخرى, الحصار الحكومي أكثر مرونة, على الرغم من أن الجميع يعلم أنه من الممكن تشديد الأمور إذا لزم الأمر. في هذه الحرب, التجويع تحديدا تكتيك فعال وأداة سياسية أيضا. فهي لا تساعد الجيوش التي تعاني من نقص السلاح فقط, بل يمكن للتجويع أن يقضي حرفيا على المعارضين. الأشخاص الذين يعانون من الجوع – أو الموت- لن يعودوا للقتال.
قبل كل شئ, التجويع, وعلى خلاف السلاح الكيماوي, مفيد في هذه الحرب لأنه لا يرقى إلى المستويات العالية التي تثير القلق الدولي. مجموعة من وزراء الخارجية أدانوا استخدام التجويع في سوريا, ولكنهم لحد الآن لم يطلقوا أية حملات للرأي العام أو تغطيات كبرى في وسائل الإعلام. ولم يؤد ذلك إلى إثارة الجدل حول التدخل الإنساني. ولهذا فإن الأمور لا زالت مستمرة, بالنسبة لمرتكبي هذا الأمر فإنه بطئ و طريقة أكثر أمنا من القنابل النووية. ولكن ذلك لا يعني أنه أقل فتكا بالنسبة للضحايا.