هكذا تنتصر إرادة الشعوب الحرة, التي تتمسك بالدفاع عن حريتها وحرية قرارها التي تقف بصدق إلى جانب الشرفاء في المؤسسة العسكرية الحامية لقرار الشعب, إذا هي تجربة انقلابية فشلت بكل المقاييس وشكلت صفعة غير متوقعة وغير محسوبة للمتربصين بنجاح التجربة الديمقراطية الحديثة في الدولة التركية الحديثة, وكان السبب الأبرز في فشلها هو الإرادة الحرة للشعب التركي الذي تمسّك بالدفاع عن حقه في تقرير المصير من خلال النزول إلى الشارع .
لابد أن فكرة القيام بالعملية الانقلابية من قبل بعض الضباط مع ثلَّة من القضاة العاملين في السلك القضائي, ليست عبثية, بل هي مؤامرة تخمرَّت ضمن زجاجة المؤامرات ضد السلطة المنتخبة وعلى مدار عدة سنين, وبالتأكيد هي محاولة لتكرار سيناريو الانقلاب في “مصر” الذي كان مشجعا لبعض أعداء الحرية الذين يطمحون لإعادة فرض هيمنة السلطة العسكرية على القرارات السياسية في البلدان التي نجحت في التحول إلى حكم السلطة المدنية المنتحبة انتخابا شعبيا ديمقراطيا ونزيها, إلّا أن الفرق بين التجربتين الانقلابيتين في كل من مصر وتركيا, هي أن السلطة التركية بقيادة الرئيس “رجب طيب أردوغان”, سلطة ذات خبرة وتمرست في التعامل مع أعداء البلاد الانقلابيين, بينما كانت السلطة المنتخبة في مصر هي سلطة جديدة لم تستطع رسم الصورة الكافية عن التيار البديل الذي يعارض كل خطوة تذهب باتجاه الديمقراطية وتعميق حالة الحكم المدنية.
وبالعودة إلى الوراء قليلا وتحديدا منذ بداية عام 2003, هو العام الذي تولى فيه حزب العدالة السلطة في البلاد عن طريق صندوق الاقتراع, نجد أن القيادات التي ولدت من رحم هذا الحزب, هي عبارة عن شخصيات تمكنت من النجاح في خلق حالة من الصدق والمصالحة بين كيان الدولة والسلطة من جهة, وبين أبناء الشعب التركي من جهة أخرى.
فهمت هذه القيادة منذ البداية مطالب الشعب التركي وتعاملت بحرفية وذكاء مع أنصار المعارضة لسياستهم حتى تمكنت من استقطاب عدد كبير منهم بل وأصبحوا من أكثر مؤيديها.
صحيح أن السلطة متهمة بتحويل النظام الحاكم في البلاد إلى نظام شبه ديني, أو بالأحرى تكريس تجربة حكم “الإسلام السياسي” على حساب التوجه العلماني الذي ساد لفترات طويلة في البلاد بعد أن أسس له المؤسس الأول للجمهورية التركية الحديثة “مصطفى كمال أتاتورك”, إلّا أن هذه الفكرة وجدت طريقا نافذا لها ضمن الوسط الشعبي التركي الذي تلقفها واحتضنها ودافع عنها, بعد أن شاهد الإنجازات الكبيرة لهذه القيادة الجديدة التي نقلت البلاد نقلة نوعية باتجاه نهضة صناعية اقتصادية حديثة جعلت من تركيا رقما صعبا بين الدول الصناعية الحديثة في العالم, وبالتأكيد كان النجاح ظاهرا وبشكل كبير من خلال ترجمة الوعود والخطط التي وضعتها الحكومة على سلَّم أولوياتها, ثم نفذتها خلال جدول زمني مدروس ودقيق للغاية, هذه الحالة الناجحة خلقت نوعا من الثقة بين كثير من أبناء الشعب التركي باختلاف توجهاتهم السياسية وإثنياتهم وأعراقهم وبين الحكومة المنتخبة التي تابعت المسيرة نحو التطوير والتحديث.
ومن الطبيعي أن تكون دولة كتركية في مواجهة خفية ومكشوفة مع التيار الموازي أو البديل الذي لا يريد لهذه الدولة المتمثلة بقيادة حزب “الحرية والعدالة” أن تنجح في تكريس حالة الحكم الجديد الذي غير العديد من المواقف التركية الخارجية القديمة وخصوصا الموقف الجديد لهذه الحكومة من دعم الشعوب الحرة والمظلومة التي تسعى إلى الخلاص من جلاديها القدماء.
وبالتالي بدأت تتشابك المؤامرات والخطط المحاكة خارجيا وداخليا لضرب النجاح الكبير لهذه السلطة الجديدة عن طريق شراء ولاءات داخلية وخصوصا ضمن المؤسسة العسكرية التركية ذات التاريخ الحافل بالهيمنة على السياسة العامة الخارجية والداخلية في تركيا, وتوَّجت أخيرا بالقيام بهذه العملية الانقلابية الفاشلة.
وبعد أن تمكنت السلطة والشعب التركي من النجاح في إفشال المحاولة الانقلابية, خرجت رموز السلطة الحاكمة في تركيا بالخطابات الموجهة للجماهير المحتشدة في الساحات المنتشرة في عموم البلاد, لتشير بأصابع الاتهام إلى الداعية “فتح الله كولن” كمسؤول عن التخطيط لهذه العملية, سيما وأنه متهم بتشكيل الكيان الموازي لكيان الحكومة في البلاد.
ويتساءل المراقب للوضع التركي من هو “فتح الله كولن” الذي أصبح اسمه محط أنظار المراقبين لعملية الانقلاب الخاطفة بشكل كبير؟
ولد “فتح الله كولن” في نهاية شهر نيسان عام 1941 في إحدى القرى التركية بمحافظة “أردروم” شرقي البلاد, وتلقى تعليما دينيا منذ صباه, متأثرا برسائل الداعية التركي”سعيد النورسي”, كما عرف عنه اهتمامه بالفلسفة الغربية والشرقية.
نفطة التحول في حياة “كولن”, بدأت بتأسيسه حركة خاصة حملت اسم “جماعة الخدمة” التي أسست شبكة ضخمة من الشركات والمدارس والمراكز البحثية ووسائل إعلام كبرى في مختلف قارات العالم, كما دفعت بالمنتسبين إليها إلى الاشتغال في الجيش والشرطة والاستخبارات وشغل مناصب حساسة في الدولة, حتى أصبحت تشكل كيانا موازيا, أو دولة داخل الدولة, تهدف إلى الانقلاب على نظام الحكم بواسطة أعضائها المنتشرين في مختلف المؤسسات الدستورية والمناصب الحساسة.
في 19 ديسمبر الماضي، أصدرت السلطات التركية أمرا بضبط “فتح الله كولن”، وذلك في إطار الحملة التي شنتها الحكومة التركية على ملاحقة ما عُرف بـ”الكيان الموازي” وهو اسم أطلقته الحكومة على تنظيم سري، يضم عاملين في السلكين القضاء والأمني، يهدف إلى إسقاط الحكومة وتقويضها، لكن “كولن” كان وقتها يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، في منفى اختياري “بنسلفانيا” في الولايات المتحدة.
ولكن الشيء اللافت للنظر هو وقوف عدد كبير من الأحزاب السياسية المعارضة ضد تجربة الانقلاب من أجل الحفاظ على الإرث الديمقراطي في تركيا واحترام قرار الشعب التركي الذي منح الثقة لحزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات الماضية, على الرغم من تعالي الأصوات داخل صفوفها باتهام الرئيس “أردوغان” بالقيام بعزل عدد كبير من الضباط وصف الضباط المعارضين لسياسته الذين وصلت أعداد المعزولين منهم إلى “40” ألف عنصر منذ العام 2003 وحتى تاريخ الانقلاب على “حد وصفهم”.
إذا لابد أن سقوط الحكومة التركية هو غاية ومطلب للعديد من الأطراف الداخلية والخارجية وقد تكون دول عديدة إقليمية ودولية تدفع بهذا الاتجاه عن طريق الأدوات المستخدمة من أمثال “كولن” وغيره, إلا أن العديد من السياسيين الدوليين يجمعون على أن السلطة الحاكمة في البلاد استطاعت أن تقلب الطاولة على الخصوم, وتستفيد من هذا الانقلاب بشكل كبير عن طريق الاستمرار بحملة التنظيف التي بدأتها منذ توليها السلطة حتى الآن, التي طالت عددا كبيرا من رموز المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية في البلاد واستبدالهم بشخصيات مقربة من الرئيس التركي “أردوغان” ذاته.
ورغم فشل الانقلاب العسكري, تبقى تركية دولة متاخمة لخط النار السوري, ومن الممكن أن تخضع لهزات قادمة قد لا تكون محسوبة الخاتمة, هذا ما ستكشفه الأيام الساخنة القادمة.
المركز الصحفي السوري- فادي أبو الجود