لا تعترف “القيادة” السورية بوجود وباء كورونا في البلاد ولكنها تتخذ الإجراءات كي لا ينتشر. ومن أبرز الإجراءات كان تأجيل انتخابات مجلس الشعب. فالقيادة تخشى أن يتفشى الوباء في التجمعات الكبيرة والحملات الانتخابية المتنافسة بشدة على هذا الاستحقاق الذي تشهده البلاد كل أربع سنوات.
لا شك أن هذا الإجراء هو الأقل أهمية في أيّ خطة تضعها الحكومة لمواجهة الوباء، إن وجدت طبعاً. فليس هناك حتى الآن من خطة سوى إنكار وجود هذا المرض في سوريا تماهيا مع المقولات الكثيرة التي تتردّد حول العناية القدرية الاستثنائية لهذه البلاد دون جميع دول الشرق الأوسط. وخاصة إيران التي صدّرت الفايروس لجميع ولاياتها خارج الحدود فيما عدا ولاية دمشق.
سطحية الخطوة تبرز من جانبين أساسيين، الأول هو أن انتخابات مجلس الشعب هي أشبه بعملية تعيين تتم عبر مسابقة تديرها الحكومة من الألف إلى الياء. والثاني أن جميع أشكال الانتخابات في زمن عائلة الأسد باتت آخر اهتمامات السوريين. وهي لا تعنيهم إلا بقدر ما يجبرهم النظام على المشاركة فيها. وبالتالي لو أن الرئيس عيّن أعضاء مجلس الشعب مباشرة ودون مسرحية الانتخابات، أو أن الأجهزة الأمنية لا تجبر الناس على الذهاب إلى مراكز الاقتراع والمشاركة في هذه المسرحية، لكانت الانتخابات جرت في وقتها دون إصابة واحدة بالوباء.
الجانب الحقيقي الوحيد في قرار بشار الأسد تأجيل انتخابات البرلمان الحالية هو المحافظة على امتداد عزوف السوريين عن المشاركة الحقيقية في هذا الاستحقاق منذ أن تقلّد والده الحكم مطلع السبعينات من القرن الماضي. حينها حصر الأسد الأب كل السلطات في البلاد بيده، وبات يدير الحكومة والقضاء والبرلمان بقانون الأحكام العرفية الذي بقي دستور البلاد، حتى تجمّل قبل عقد من الزمن واكتسى بحلة جديدة اسمها قانون مكافحة الإرهاب.
ورث الأسد الابن عن الأب ذات السلطة المطلقة على كل شيء في الدولة. وعلى مدار خمسة عقود متتالية حكم فيها آل الأسد البلاد، تحول مجلس الشعب إلى مؤسسة أمنية تمارس التشبيح العلني. يقف أعضاؤه أمام كاميرات التلفزيون ليقولوا شعراً ومديحاً في سيادة الرئيس وعظمة قيادته، وعندما يؤمرون بالتصويت على القرارات يسارعون للإدلاء بأصواتهم التي لا تعبّر إلا عن أنفسهم. فهم لا يمثلون خارج أسوار البرلمان إلا من ينتفعون منهم برشوة هنا ووساطة هناك.
منذ بدء الأزمة عام 2011 أجريت “انتخابات” مجلس الشعب السوري مرّتين، والمرة الثالثة التي تأجلت فيها بسبب كورونا لم تكن لتختلف عن المرتين السابقتين إلا في الأعضاء الذين سيقفون على خشبة المسرح ويصفقون للرئيس “البطل”، عندما يخرج ليتحدث عن انتصاراته على المؤامرة الكونية التي تشرّد بسببها نصف الشعب ومات، أو فُقد، نحو مليون شخص.
واقع الحال يقول إن البرلمان السوري الذي سيولد في “انتخابات” شهر مايو المقبل، طبعاً إذا لم يضطر بشار الأسد إلى تأجيلها ثانية بسبب كورونا، سيكون النسخة الثانية عشرة من برلمان ما يسمونها بالجمهورية الثانية.
النسخة الأولى من البرلمان منقوص السلطة في الجمهورية الثانية ظهرت عام 1973. حيث أجريت أول “انتخابات” في زمن الأسد الأب، وصنع حافظ الأسد برلماناً على مقاس دستور جديد صاغه على مقاسه. ذات البرلمان بنسخته التاسعة هو من عدّل القوانين في ليلة واحدة عام 2000، من أجل تنصيب بشار الأسد رئيساً للبلاد. جميع الأعضاء حينها وافقوا على التعديلات رغم أنوفهم، تماماً كما أجبر السوريون بعدها على انتخاب بشار رئيسا للبلاد المرة تلو الأخرى.
مجلس الشعب السوري بعد ثورة الثامن من مارس وسيطرة “الأسود” لم يعرف انتخابات ديمقراطية واحدة. أما قبلها فعاش العديد من التجارب كان أولها عام 1943. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم مر على البلاد أكثر من خمسة وعشرين رئيساً. اثنان منهما فقط هما حافظ الأسد وابنه بشار، حكموا سوريا لمدة خمسين عاماً. وهيمنوا خلالها على اثني عشر برلماناً، بما فيهم البرلمان المنتظر في مايو المقبل.
من ينتظر البرلمان الجديد بعد شهرين يفعل ذلك لأسباب شخصية بحتة، أما الذين ينتظرون برلماناً يأتي بحكومة ديمقراطية ورئيس منتخب، فهم سيواصلون انتظارهم المستمر منذ خمسة عقود. وسواء أكانوا في الداخل أم الخارج فإن كورونا لن يزيد من انتظارهم، لأن الوباء الذي يقف بينهم وبين الانتخابات الديمقراطية التي تنتج مثل ذلك البرلمان، تحميه الدّول ولا تحاربه كما تفعل مع كورونا.
صحيفة العرب _ الصحفي : بهاء العوام