ما الجدوى من وجود البرلمانات والدساتير في أنظمة الاستبداد والحكم الفردي المطلق، إذا كانت مرجعية كل قرارٍ وموقف تعود إلى مزاج الزعيم الفرد، على الرغم من وجود المؤسسات المختصة، والتي يفترض أن من مهامها التقرير، في كل ما يتعلق في شؤون عملها، وما على الرئيس سوى الموافقة، لا التقرير نيابةً عن جهات الاختصاص الذي يصبح، في هذه الحالة، تنفيذيا ليس إلّا؟
هنا، تعيش الأنظمة السياسية حالة انقلابية على ذاتها، حين لا يكون هناك من يقرّر سوى الفرد صاحب السلطة المطلقة، وما على الآخرين، كل الآخرين، من سلطات سوى الإذعان، وتنفيذ أوامر مركز القرار، كمركز مقرّر يشرّع سياسات الدولة ويرسمها، بغض النظر عن وجود مراكز أخرى، هي بمثابة مؤسسات أو أشباه مؤسسات، من المفترض أنه قد أنيط بها مهام رئيسة، كسلطة التشريع في برلمانٍ منتخب، يمثل الشعب تمثيلا صحيحا، ولا يعكس تمثيله الحكومة أو سلطة الفرد المطلقة، وذلك وفقا لما منحه الدستور من تحديد لصلاحياته.
المشكلة الرئيسة التي تواجهها الأنظمة السياسية التي تعيش الاستبداد الفردي المطلق، أو الاستبداد الفئوي البوليسي أو العسكري، أنها لا تتوفّر على تقاليد راسخة، عمادها المؤسسات المستقلة عن هيمنة الرئيس الفرد حاكماً بأمره، هذا ما حصل في روسيا التي ورثت تركة الاتحاد السوفييتي، ولم تستطع بناء مؤسساتٍ مستقلةٍ عن سلطة الرئيس بوتين، وها هو كزعيم فرد أوحد، يصادر دور المؤسسات التشريعية وإقصاء المعارضة السياسية، وصولاً إلى تعيين حرّاسه الشخصيين حكاماً للأقاليم والمحافظات الكبرى. وخلال هذه السنة، تولى فيكتور زولوتوف، الحارس الشخصي لبوتين منذ 20 سنة مضت، والذي كان يرأس جهاز الحراسة الشخصية للرئيس، قيادة الحرس القومي، الجهاز الأمني الذي تم استحداثه، أخيراً، تحت ستار “محاربة الإرهاب” فيما يهدف، في الحقيقة، إلى قمع الاحتجاجات الداخلية، وفق صحيفة نيويورك تايمز التي أشارت إلى أنه، بدل ملء النظام بالوجوه السياسية، يتم وضع حفنةٍ من الموالين للرئيس في مختلف أركان النظام. وبنبرةٍ متهكمة، أوردت الصحيفة أنه عندما سينفد الحراس الشخصيون، ولا يجد بوتين حكاماً جدداً لتنصيبهم، سيلجأ ربما إلى تعيين الطهاة والخدم الذين يثق بهم.
أما في مصر المحروسة، فلم يكن مصير المحافظين، كحكام للمدن المصرية، أقل احتفاءً من الحاكم الفرد الذي مثله حسني مبارك في عهده بزملائه من ألوية القوات المسلحة، وهو ينتقيهم واحداً بعد الآخر، ليكونوا شركاء في السلطة، لا في القرار، وصولا إلى هيمنةٍ شبه عسكرية على الاقتصاد والتجارة. وها هو نظام عبد الفتاح السيسي يكاد يبتلع كامل الاقتصاد المدني والعسكري وإنتاج السلع الاستهلاكية والاستراتيجية، وبأدواتٍ عسكرية شريكة للزعيم الفرد الأوحد في مصر المغلوبة على أمرها، وهي تتقلب على مواجع تحويل نظامها السياسي من نظام دولةٍ إلى نظام الحاكم الفرد، وهو يجرّب إخضاع كامل الدولة إلى السلطة العسكرية، وللانتهاء من بناء نظام سياسي يشابه الأنظمة التوتاليتارية الشمولية وزعاماتها الفردية، وهي ترذل المؤسسات، وتحتقرها وتبعدها عن أي تأثير أو فاعلية سياسية.
وهذا شأن العديد من سلطات النظام العربي الرسمي، القديم والراهن، من العراق إلى سورية واليمن وليبيا، وما سوف يلي من أنظمةٍ مشابهة، تردّت في طوائفيتها وتمذهباتها الدينية والسياسية، حتى غدت ألعوبةً لاحتلالات إقليمية، لم تجلب معها سوى الفتن والحروب الأهلية المدمرة من الآن وإلى المستقبل.
لم يكن الأمر في الجزائر أحسن حالا، فجنرالات السكر والزيت والرز، مثل نظام عبد الفتاح السيسي، تشهد على حال من سيطرة مراكز القوى العسكرية، ليس على سلطة البلاد، بل على اقتصادها، وعلى حياة الناس فيها، من دون حسيبٍ أو رقيب، فلا الدستور يجري احترامه، ولا سلطة المجلس النيابي تلعب أدوارها المفترضة التشريعية أو الرقابية، فالرئيس، باعتباره حاكماً مطلقاً هو الحاكم بأمره، في دولةٍ تحولت، مع الوقت، إلى دولةٍ لا تشتغل لمصالح الجزائريين جميعاً وتطلعاتهم.
وفي إيران، من الواضح أن الولي الفقيه هو الانعكاس الأوضح والأفصح، تعبيراً عن سلطة الفرد المطلق، وبالتالي، هو الحاكم بأمره، على الرغم من وجود انتخاباتٍ وبرلمان “منتخب”، يسوّق ولاية الفقيه ويلتزم أحكامه المطلقة. وإن دل هذا على شيء، فعلى أن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع وانتخابات فقط، بل هي، وفي الأساس، سلوك وممارسة سياسية تقوم على قواعد المواطنة الصحيحة، في استنادها إلى مرجعياتٍ ثقافية، في الحالات الطبيعية من الصعب اختراقها أو تزويرها، وادّعاء أنها من تقاليد الولاية، كسلطة لا علاقة لها بالسياسة، ولا بالاجتماع الإنساني، والحكم الديمقراطي الرشيد.
وما يجري في إيران “الحديثة” أو الحداثوية نفي للسياسة عن نظامها، وعن حكامها أفراداً ومجاميع، في إطار عملية اشتقاق طريق في الصراع على المصالح والتطلعات القوموية، وهي تزج أبناء المذهب الجعفري، أو الإثني عشري، وتستعملهم ذخيرةً في حروبها للهيمنة الإقليمية، واعتبارهم “لا مواطنين”، لا في بلدانهم ولا في أي بلد آخر، بل هم رعايا كوزمبوليتيون، عبيد ومرتزقة عابرون للحدود، يقفون رهن إشارة النظام الفردي المطلق، وهو يحلم باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة، ببناء إمبريالية إقليمية حديثة في المنطقة.
أما ثالثة الأثافي، أو رابعتها، في هذا الصدد، فإن واقع السلطة الوطنية الفلسطينية التي تشكلت في أعقاب اتفاقات أوسلو، والخاضعة لمرجعيتها المبهمة وغير المفهومة، على الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً، من دون أن يجري العمل على تنفيذ بنودها، في وقتٍ جرى فيه تجاوز سقف السنوات الخمس التي حدّدتها الاتفاقات لانفكاك الوضع الفلسطيني عن الاحتلال أو العكس، من دون أن يؤدي ذلك كله إلى أن تثور السلطة على واقع خيانة حكومة الاحتلال وعودها ومماطلاتها وتسويفاتها، بل هي كانت تمضي في إمعانها بسياسات الاحتلال والاستيطان والتهويد والأسرلة للمناطق الفلسطينية، المفترض أنها محسوبة على الدولة الفلسطينية العتيدة.
جعل هذا كله من السلطة الفلسطينية أسيرة الخضوع لتحولات ارتدادية، انقلبت بفعلها على نفسها، جاعلةً منها حاكماً فردياً مطلقاً على شعبها، وأمينةً بإخلاص لسياسات “التنسيق الأمني” التي أضرّت، أيما إضرار، بواقع تمثيل السلطة شعبها، وبواقع سلوكها السياسي الملتبس، والفصامي المحكوم لمزاج فردي غير متسقٍ في قراراته التي يغلب عليها الارتجال والعشوائية، وكأبرز مثال على هذه السياسة مسألة الانتخابات البلدية المحلية، منذ لحظة إقرارها، وحتى
تأجيل المحكمة العليا لها، وصولاً إلى الفراغ الذي سيسود، وسيعقب أي خطواتٍ مقبلةٍ على هذا الصعيد، في ظل واقع انقسامي فلسطيني سياسي وجغرافي، صار “عز المنى والطلب” لدى سلطويينا أفرادا وجماعاتٍ وفئات، لا يرون في استعادة الوحدة سوى انتقاص من سلطة الفرد المطلق، أو الفئة التي تمحض ثقتها المطلقة لسلطة الفرد، من دون مساءلةٍ أو تفكيرٍ وتدبير. ويا لها من سلطةٍ تحت الاحتلال “تتجلى” كالعروس، على حساب القيم والأخلاقيات والالتزام بالقضايا الإنسانية والوطنية، من دون أن يعيبها أنها ممثلةٌ لقضية أقدس من مقدسات سلطة، يسعى أطراف الانقسام إلى تسييدها رافعة إستراتيجية، لقيامهم بواجبهم الوظيفي السلطوي من جهة، وتكريسها في مواجهة شعبهم وقضيتهم. أما في مواجهة الاحتلال، فتلك مسألة أخرى يجري تجاهل منطوقها، ليجري محلها إحلال منطوق السلطة الأعز، على قلب السلطويين ومتلازماتهم المرضية، ومصالحهم الزبائنية والمنفعية.
هذه بعض نماذج من استبدادٍ، يواصل تدوير تحولاته، لترسو على حكم فردي مطلق، فيما هو يواصل عملية التدوير؛ لا بحثاً عن تغيير في أشكال ممارسة السلطة، بل في تعميقه سلطة الفرد حاكماً مطلقاً، لا يُبارى ولا يُجارى ولا يُساءل، والكارثة أن استبداداً كهذا لا تنفع معه أي عملية إصلاحية على الإطلاق، بقدر ما تستدعي الأزمة عملية تغييرٍ جذرية، بقيادة قوى جذرية، تقود وضعاً شعبياً لا يساوم ولا يهادن، على ما هو حال الوضع السوري، وهو يدخل نفقا مع مساومات التصارع على سورية نفسها، محلياً وإقليمياً ودولياً، أما محور تلك المساومة فهو بقاء الاستبداد السلطوي، ولو أربعين عاما أخرى، طالما أن الحكم والحاكم باتا أكثر من أسيرين، وقد تحولا، مع سلطتهما المطلقة، رهائن قوى دولية متنافسة، وإقليمية متعادية لفظاً في المنطقة، كإسرائيل وإيران ومليشياتها، في وقت ذهبت “المقاومة” المزعومة و”الممانعة” الموهومة أدراج الرياح.
ماجد الشيخ_العربي الجديد