كان الشيخ رفاعة الطهطاوي (1216 – 1290 هـ، 1801 – 1873م) أول عين للشرق على الغرب في العصر الحديث، وعندما ذهب إلى باريس عام 1826 م، ومكث بها خمس سنوات، وكتب عن الحضارة الأوربية، وقارن بينها وبين الإسلام وحضارته، لم يقع في الانبهار والاندهاش، كما لم يتخذ موقف “الرفض والاعتراض”، وإنما اتخذ موقف الداعي إلى “تفاعل” الحضارات، صاحب الرؤية الناقدة التي تميز بين المشترك الإنساني العام، الجامع لكل الحضارات، وبين الخصوصيات والبصمات التي تميز حضارة الإسلام عن غيرها من الحضارات.
فهو يمتدح ما في فرنسا من العلوم الطبيعية، علوم التمدن الغربي، التي أخذوها عن الحضارة الإسلامية وطوروها.
فالبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران، حتى أصبحت هذه البلاد من أحكم بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية.
ويمتدح تعلق الفرنسيين بالحرية، حتى أنه لا يطول عندهم ملك جبار، ولا وزير اشتهر بينهم أنه تعدى مرة وجار!
وينتقد ويرفض الفلسفة الوضعية، التي تعتمد على المحسوس وعلى العقل دون الشرع، ويقول: “إن لهم في الفلسفة حشوات ضلالية مخالفة لكل الكتب السماوية، وإن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا قرره الشارع، ولا عبرة بالنفوس القاصرة، الذين حكّموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسينا وتقبيحا، وظنوا أنهم فازوا بالمقصود بتعدي الحدود، فينبغي تعليم النفوس السياسة بطرق الشرع لا بطرق العقول المجردة”.
وينتقد نقدا لاذعا ما أثمرته الفلسفة الوضعية من العلمانية التي همشت الدين والتي جعلت أهل هذه البلاد إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا يتبع دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن في العقل صواب، ولذلك فهو لا يصدق بشيء مما في كتب أهل الكتاب لخروجه عن الأمور الطبيعية.
ثم يصوغ الطهطاوي هذه المفارقة التي ميزت الحضارة الأوربية، تقدم في العلوم الطبيعية وضلالات في الفلسفة وتهميش للدين، يصوغها شعرا يقول فيه:
أيوجد مثل باريــــس ديار شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح أما هذا وحقكـــم عـــجـيب
ثم يقدم البديل الإسلامي الذي يجمع بين العقل والشرع، فيقول: “إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا قرره الشرع، والتكاليف الشرعية والسياسية التي عليها نظام العالم مؤسسة على التكاليف العفلية الصحيحة الخالية عن الموانع والشبهات، لأن الشريعة والسياسة مبنيتان على الحكمة المعقولة لنا أو التعبدية التي يعلم حكمتها المولى سبحانه، وليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه، والذي يرشد إلى تزكية النفس هو سياسة الشرع، ومرجعها الكتاب العزيز، الجامع لأنواع المطلوب من المعقول والمنقول، مع ما اشتمل عليه من بيان السياسات المحتاج إليها في نظام أحوال الخلق”.
إن إعادة قراءة الطهطاوي تؤكد خطأ الذين حسبوه منبهرا بأوربا، أخذ ما فيها حزمة واحدة، دون نقد أو تمييز، ولقد وقع في هذا الخطأ كثير من العلمانيين والإسلاميين.