كان السلوك الأخير لوحدات حماية الشعب الكُردية السورية مُثيراً للاستغراب، حيث سار عناصرها بحافلة مكشوفة في مدينة عفرين ذات الأغلبية الكُردية، يحملون جُثث العشرات من مُقاتلي الجماعات السورية المُقاتلة المُناهضة لهذه الوحدات، والتي تخوض معارك ضدها في جنوب وشرق إقليم عفرين.
مثلُ هذه السلوكيات الاستعراضية نادراً ما تفعله هذه الوحدات الكُردية، ليس فقط لأنها تنظيم شديد الانضباط والمركزية والتوجيه، بل أيضاً لأنها طوال تجربتها السورية كانت تدعي مستوى عالياً من الرومانسية السياسية والثقافة الحداثية، المُفارقة والمتفوقة على غيرها من سلوكيات الجماعات السورية المُقاتلة، وبالذات منها الإسلامية المُتطرفة. وأيضاً لأن “التنظيم الأُم” لهذه الوحدات، أي حزب العُمال الكُردستاني، لم يُعرف عنه مُمارسات كتلك طوال عقود قِتاله الطويلة في تُركيا.
أغلبُ الظن أن ما فعل فعله مزيج مُركّب من الاستهتار بالضحايا وجماعاتهم السياسية، والمناعة تجاه أي إحساس بإمكانية المُحاكمة والمُحاسبة، راهناً أو مُستقبلاً، ووهم عميق بالتفوق الأخلاقي والعسكري على النُظراء هؤلاء، ممن سماهم روائي كُردي سوري بـ “الحيوانات النافقة”!.
لا يجري ذلك خارج الاستبطان العميق والمُتقادم من قِبل جميع الجماعات لمُجريات الأحوال السورية، من عُنف أرعن وعدمية أخلاقية وصمت دولي وأفق سياسي مسدود. صحيح أنه صدرت أصوات تنديد وشجب لهذا الفعل الأرعن، من قطاعات واسعة من الأكراد السوريين، بمن في ذلك موالون وقريبون من هذه الوحدات، التي اعتبرت الفعل فردياً ولا يُمثل توجهاتها. إلا أن حدوثها وتبريرها وقبولها النسبي من قطاعات ما، وإن كانت صغيرة، يُستدل منه بأن طاقة مقاومة التجاوزات الواضحة لحقوق الإنسان، باتت أضعف بالتقادم، يصح ذلك حتى على أكثر الجماعات ادعاء لامتلاك تلك المناعة.
كما لم يجر هذا الفعل المقيت خارج المُستنقع السوري الأوسع. فبعض التنديد الدولي والضغوط الإقليمية النسبية التي كانت تُمارس في وجه همجية مُمارسات النِظام السوري، باتت أقل بكثير مما سبق.
فالنِظام بكُل وضوح صار يُظهر أعلى درجات استهتاره بالعملية السلمية كُلها، مُرفقاً إياها بأقصى درجات العنف البشع تجاه المدنيين في البيئات المُناهضة له. فهو يقصف المُستشفيات ويمحو أحياء سكنية بكاملها ويُهجر عشرات الآلاف ويغيّرُ ديموغرافيا المُجتمعات المحلية السورية ويستدعي جيوش الحلفاء لمحاربة شعبه. وفوق كُل ذلك، يُظهر إعلامه وخطابه العام أعلى درجات ادعاء التفوق والأنسنة والوطنية والقيم العالمية!. هكذا تظهرُ بشاعة عدم المُبالاة في أقصى درجاتها.
وكمثل النِظام السوري، يفعل الكثير من التنظيمات المُقاتلة السورية، حيث بات قبول المستويات الفاضحة من العُنف وتحطيم الأعداء والتنكيل بهم وببيئاتهم الاجتماعية وجغرافياتهم يلقى قبولاً من قطاعات واسعة من المُجتمعات السورية كُلها، والتي تبدو كأنها فقدت الطاقة الأخلاقية والمعرفية والخطابية لمواجهة أشكال التنكيل تلك، وباتت أكثر استعداداً للبحث عن التبريرات والتفسيرات التي تُشرعن مثل تلك الأفعال، ولو بشكل نسبي.
هذه القابلية السورية نتجت بدورها عن عدمية مُركبة ومُستهترة بأحوال السوريين ومصائرهم، تعانيها سورية مُنذ سنوات. فلا عواقب يُمكن أن تطال أي فعل كان، مهما كان بشعاً، يُمكن أن يُمارسه أي طرف بحق أيٍ كان. لا محاكم ولا عقوبات ولا حتى وعيد بفرضها، سوى تلك التي تشبه عقوبات الاتحاد الأوروبي في الشهور الأولى للثورة السورية، حيث منعت تصدير “السيجار” إلى سورية كرد فعل على سلوكيات النظام في قتله عشرات المُتظاهرين السلميين!.
ولأن الجميع يدرك اليوم أن نهاية الحال السورية سيترافق مع صدور قانون عفوٍ عام عن جميع الأفعال والمقاتلين، فذلك يبدو مبعثاً للاطمئنان. إذ كيف لتلك القوى ألا تفكر بذلك فيما المجتمع الدولي يُظهر في كُل بيان له عن رغبته بإعفاء بشار الأسد عن أية تبعات قانونية مُستقبلية لأفعاله، وهو الأكثر إمعاناً في مُمارسة البشاعة، بل هو يُعد المصدر المؤسس لها.
كذلك بات السوريون يدركون أن “العالم الحُر” تركهم لمصيرهم وحيدين، ليس لآلة نِظام الأسد الإجرامية فحسب، بل كذلك لكل حلفائه الإقليميين والدوليين، بوحشيتهم وتجاربهم السابقة في تحطيم مُجتمعاتهم المُتمردة، بالكثير من نزعات الانتقام الدينية والطائفية والمذهبية. ويبدو هذا العالم المُخول حفظ السلام والأمن الدوليين في الحالة السورية، مُهتماً بتحطيم داعش فحسب، أياً كانت الأثمان والتبعات التي على السوريين أن يدفعوها. ومقابل ذلك كُله، يصير السوريون مجرد كتلة بيولوجية من البشر، يسعون للحِفاظ على أنفسهم بأي ثمن وأية آلية.
وإن كان من رمز وتكثيف لـ “زمن البشاعة” السوري هذا، فهو الرئيس الأميركي باراك أوباما، وسياسته المُتخلية عن المسؤولية الإنسانية تجاه “ضُعفاء الأرض”.
الحياة