أثار قرار البنك المركزي الروسي سحب ترخيص مصرف “إنتركوميرتس” الذي كان يأتي في المرتبة الـ67 بين البنوك الروسية من حيث حجم الأصول، تساؤلات حول مدى صمود المنظومة المصرفية الروسية في مواجهة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تدني أسعار النفط والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو على خلفية الوضع في أوكرانيا.
وأرجع المركزي الروسي قراره الذي اتخذه، قبل يومين، إلى عدم التزام “إنتركوميرتس” بالقوانين الفدرالية وتدني رأس ماله والجودة غير المقبولة للأصول وعدم تقييم المخاطر الائتمانية بصورة ملائمة والتورط في إجراء عمليات مشبوهة.
وجاء قرار سحب الترخيص بعد أكثر من أسبوع على فرض وصاية على البنك لمدة ستة أشهر لتدني رأس ماله مع استمراره في قبول الودائع من الأشخاص الطبيعيين، ليرتفع مجموعها إلى 69.5 مليار روبل (حوالي 900 مليون دولار)، قبل أن تتوقف فروع البنك عن إجراء عمليات السحب يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي.
وإلى جانب “إنتركوميرتس” قام البنك المركزي، يوم الاثنين الماضي، بسحب ترخيص مصرف أصغر، وهو “ألتابنك” الذي كان يأتي في المرتبة الـ186 بين البنوك الروسية.
وعلى الرغم من أنه على مدى الفترة الأخيرة، لم يكن يمر أسبوع دون إعلان المركزي الروسي عن سحب ترخيص هذا البنك أو ذاك وتعثر أكثر من 100 مصرف، في العام الماضي، من بين قرابة 800 تمثل الجهاز المصرفي الروسي، إلا أن حالات إلغاء تراخيص المصارف من ضمن أكبر 100 مؤسسة ائتمانية في روسيا، كانت تثير في كل مرة تساؤلات حول وضع القطاع.
وما يميز حالة “إنتركوميرتس” أن البنك كان يعمل في السوق، منذ عام 1991، كما أن كل حالة كهذه تشكل عبئاً كبيراً على وكالة تأمين الودائع.
ووفقاً للنظام المعمول به في روسيا، فإنه في حال تعثر أي بنك مشارك في منظومة تأمين الودائع، يحصل العملاء على قيمة ودائعهم كاملة في حدود مبلغ 1.4 مليون روبل (18 ألف دولار). أما إذا كانت قيمة ودائع العميل تفوق هذا المبلغ، فلن يحصل على الفرق إلا بعد إجراءات تصفية البنك، في غياب ما يضمن الحصول عليه كاملاً في نهاية المطاف.
ويتم تمويل صندوق وكالة التأمين، وهي في الواقع عبارة عن منظومة المسؤولية الجماعية للمصارف الروسية، من الرسوم الربع السنوية التي تسددها البنوك المشاركة فيها، وتزيد قيمتها الإجمالية عن 20 مليار روبل كل ثلاثة أشهر، كما سبق للبنك المركزي أن خصص 75 مليار روبل (نحو مليار دولار) لدعم الوكالة.
وستكون التعويضات التي ستدفعها الوكالة لعملاء “إنتركوميرتس” هي الأكبر في تاريخها وستبلغ 64.8 مليار روبل (840 مليون دولار)، محطمة التعويضات لعملاء “فنيش بروم بنك” التي بلغت 45 مليار روبل.
وسبق إلغاء ترخيص “فنيش بروم بنك” الذي كان يأتي في المرتبة الـ40 بين البنوك الروسية الكبرى، في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد أن تجاوز حجم التزاماته أصوله بشكل كبير، ولم تعد هناك إمكانية دعمه وإنقاذه.
ويرى دميتري سيدينكوف، رئيس إدارة التحليل في بنك “نورديا”، أن سحب التراخيص من بعض البنوك الكبرى يأتي ضمن السياسة الرامية إلى تعافي المنظومة المصرفية التي ينتهجها البنك المركزي الروسي.
ويقول سيدينكوف لـ”العربي الجديد”: “منذ عام 2014، أصبحت جميع البنوك التي تخالف القانون مهددة بإلغاء تراخيصها، ويقرر البنك المركزي في كل حالة بعينها ما إذا كانت هناك جدوى من إنقاذ البنك من عدمها”.
ويشير إلى أن إلغاء ترخيص أحد البنوك الكبرى ليس سابقة، مرجحاً ألّا يهرع العملاء لسحب ودائعهم من البنوك الخاصة، إذ اعتاد أصحاب المدخرات، منذ سحب ترخيص “ماستربنك” في عام 2013، على توزيعها بين الحسابات بأكثر من مصرف حتى لا تزيد قيمة كل وديعة عن المبلغ المؤمن عليه.
وكان سحب ترخيص “ماستربنك” من القضايا التي شغلت الرأي العام الروسي بقوة في نهاية عام 2013، إذ كانت سابقة لإلغاء ترخيص مصرف كبير (المرتبة الـ70 من حيث حجم الأصول آنذاك) بعد بضع سنوات من الاستقرار والظروف الاقتصادية المواتية وتجاوز تداعيات الأزمة المالية العالمية لعامي 2008 و2009.
من جهتها، تتوقع آنا كوكوريفا، الخبيرة بشركة “ألباري” للتداول، توجه عدد من العملاء إلى سحب أرصدتهم من البنوك الخاصة وإيداعها في البنوك الحكومية على الرغم من نسب الفائدة الضئيلة.
وتقول كوكوريفا لـ”العربي الجديد”: “كان إنتركوميرتس مصرفاً كبيراً ومن أقدم البنوك في السوق، وكان يحظى بثقة وبسمعة جيدة. عند انهيار المؤسسات بحجم إنتركوميرتس، يشعر المودعون بالذعر، ويتجه بعضهم للحفاظ على مدخراتهم بمنازلهم أو بأحد البنوك الحكومية الكبرى”.
وترى الخبيرة المالية أن القطاع المصرفي الروسي يمر بالفعل بأزمة في ظل العقوبات الغربية التي تمنع المؤسسات الروسية من الاقتراض من الخارج، وتشديد البنك المركزي سياسته، مقللة في الوقت نفسه من احتمال مواجهة القطاع أزمة واسعة النطاق.
ويقول مراقبون، إن أخطر ما في الأمر هو ارتباط البنوك المتعثرة الكبرى بشركات وهيئات لها دور حيوي في الحياة الاقتصادية في روسيا. وكانت من بين شركاء “إنتركوميرتس”، هيئة الجمارك الفدرالية الروسية وشركة “ترانس نفط” التي تحتكر أنابيب النفط. كما بلغت قيمة ودائع الأشخاص الاعتباريين 26.1 مليار روبل (حوالي 340 مليون دولار).
وكان من بين عملاء “فنيش بروم بنك” أيضاً، عدد من الشركات والهيئات الحكومية الكبرى مثل “روس نفط” و”روس نفط غاز” وترانس نفط” واللجنة الأولمبية الروسية وبعض الهيئات التابعة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
ولما كان القطاع المصرفي من أول القطاعات التي واجهت تداعيات العقوبات الاقتصادية الغربية، تراجع إجمالي أرباح البنوك الروسية بمقدار ثلاثة أضعاف في عام 2015، ليبلغ 192 مليار روبل فقط، كما تكبد القطاع خسائر بلغت 73 مليار روبل (قرابة مليار دولار) في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ولعل هذا ما دفع رئيس الوزراء الروسي، دميتري مدفيديف، للتأكيد أن الحكومة ستضع مقترحات بشأن مواصلة دعم القطاع المصرفي ضمن الخطة الجديدة للإجراءات الاقتصادية هذا العام.
وآخر مصرف كبير أعلن البنك المركزي إفلاسه هو فنيشبرومبنك الذي كان بين زبائنه مقربون من شخصيات روسية، وذلك بعد اكتشاف مخالفات كبيرة في حساباته.
وقامت السلطات الروسية، في السنوات الأخيرة، بعملية تنظيم واسعة في هذا القطاع الذي يضم مئات المصارف الهشة التي تثير نشاطات بعضها الشبهات.
وتسارعت الوتيرة، منذ عام ونصف العام، مع تراجع سعر الروبل؛ نتيجة العقوبات الغربية على موسكو وانهيار سعر النفط، أخيراً؛ ممّا أدى إلى إفلاس نحو مائة مصرف.
وخفضت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني توقعاتها لأداء الاقتصاد الروسي، خلال العام الجاري، حيث رجحت أن ينكمش بنسبة 1% مقابل توقعات سابقة بنمو في حدود 0.5%، وذلك بسبب تداعيات تهاوي أسعار النفط والعقوبات الغربية.
واعتبرت أن السياسات التي تنتهجها الحكومة الروسية “أتاحت تخفيف تأثير صدمة تراجع أسعار النفط على الموازنة العامة، إلا أن تأييد الإجراءات في مجالات الضرائب والميزانية والنقد يشكل ضغطاً إضافياً على النمو”.
العربي الجديد