إذا كنت أوروبياً، وخاصة إذا كنت ألمانياً، فأنت تحيا منذ عام وسط حالة من النقاش العام المقلق حول ما تعنيه هذه الهُوية – وكيف يمكن للآخرين الذين وُلدوا في أماكن أخرى أن ينسجموا معها.
في أواخر أغسطس/آب 2015، تصاعدت حدة التوترات حيال تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط. عُثر على 71 شخصاً ميتاً، بعدما تخلى عنهم المهربون، داخل شاحنة مغلقة في النمسا. وهاجمت مجموعة من مثيري الشغب، المنتمين للنازيين الجدد، قوات الشرطة خارج مأوى لاجئين بمنطقة هايدناو، بالقرب من مدينة دريسدن، National Geographic.
وعندما زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المأوى لإظهار دعمها للاجئين، استقبلها متظاهرون غاضبون بصيحات مثل “نحن الشعب”. كما نعتوها بـ “العاهرة” و”الداعرة الغبية” و”الخائنة” – وهي صفة تعود للعهد النازي وتعني “الشخص الذي يخون الشعب”.
بعد مرور 5 أيام، عقدت ميركل مؤتمرها الصحفي الصيفي السنوي ببرلين في 31 أغسطس/آب. كان اللاجئون السوريون حينها في بودابست يقتحمون القطارات المتجهة إلى ألمانيا. وكالمعتاد، أظهرت ميركل هدوءاً كبيراً. كما قالت إن حكومتها تتوقع في ذلك الوقت وصول 800.000 لاجئ في عام 2015. (وصل الرقم لأكثر من مليون لاجئ).
ميركل تساعد اللاجئين
يضمن الدستور الألماني الحق في اللجوء السياسي، كما ذكّرت ميركل الصحافة، وتقول مادته الأولى، “يجب أن تُصان حُرمة الكرامة الإنسانية”. وبالفعل، كان كثير من الألمان يوفون بتلك الوعود ويساعدون اللاجئين بدلاً من إلقاء الحجارة والشتائم. قالت ميركل، “إن ألمانيا دولة قوية. لقد أنجزنا كثيراً من الأشياء. وبإمكاننا القيام بهذا!”
ربما في يوم ما ستُكتب تلك الكلمات –”بإمكاننا فعل هذا”– على ضريحها. في هذه الأثناء كانوا قد ساعدوا في جعل ألمانيا الدولة صاحبة أكثر المشاهد إثارة للاهتمام في مسرح الدراما العالمية.
الهجرة العالمية
على مدى عقود مضت، كانت الهجرة العالمية تزيد بمعدل أسرع من الزيادة السكانية. في عام 2015، وصل عدد المهاجرين حول العالم إلى 244 مليون شخص، حسب ما تقول الأمم المتحدة، وهم الآن يعيشون في بلاد لم يولدوا بها.
كان عدد اللاجئين الذين أُجبروا على الخروج من بلادهم التي ولدوا بها هو 21 مليوناً، ويعد هذا الرقم قياسياً منذ الحرب العالمية الثانية. ويتوقع العلماء أن يُزيد التغيُر المناخي هذا العدد، من خلال مزيد من حالات الجفاف المتكررة وارتفاع منسوب البحار. كما يقول البعض إن ارتفاع العدد يُعزى إلى الحرب الأهلية السورية، التي حفّزت الهجرة الجماعية الحالية إلى أوروبا.
يصل اللاجئون إلى قارة صارت منذ الحرب العالمية الثانية موطناً لثُلث مُهاجري العالم. تمتلك دول أوروبا الرئيسية الآن، والتي أرسلت يوماً ما حشودها الغفيرة إلى الولايات المتحدة، فئات سكانية أجنبية المولد مقارنة بمثيلتها في الولايات المتحدة.
بيد أن بعض العقول الأوروبية وبعض القلوب الأوروبية الأخرى الأقل عدداً هم فقط من تكيّفوا مع هذا الواقع. وحتى في الولايات المتحدة، التي وصفها جون كينيدي بـ “أمة من المهاجرين”، تعد الهجرة فيها مسألة خلافية، بل طالما كانت هكذا دائماً. في خمسينيات القرن الثامن عشر، شعر بنجامين فرانكلين بالقلق من وفود عدد هائل من الألمان إلى ولاية بنسلفانيا. وقال إن لديهم “بشرة داكنة”.
الإفراط في عدد الأجانب
يمتلك القاموس الألماني تعبيراً مشابها لمخاوف فرانكلين، وهو Überfremdung، أو “الإفراط في عدد الأجانب”. إنه الخوف من أن يصير الوطن غير قابل للتعرف عليه؛ بسبب وجود عدد هائل من الغرباء به، يتحدثون بلغات غريبة ويتصرفون بطرق غريبة.
يمكن لأغلبنا على الأرجح، إذا نظرنا بداخل قلوبنا، تخيل ذلك الشعور على الأقل. شهدت ألمانيا في العام الماضي هذا العرض المشتعل. كان هناك مسيرات ليلية ضخمة وخطاب ناري صادر عن خطباء يمينيين في دريسدن وإرفورت.
وكان هناك مئات من الاعتداءات على أماكن إيواء اللاجئين، لا يزال معظمها فارغاً، بعد قيام مجرمين مخمورين قبل مؤتمر ميركل الصحفي بأيام قليلة بإلقاء زجاجات المولوتوف داخل غرفة نوم طفل في مأوى يقع في منطقة سالزيمندورف، قرب مدينة هانوفر.
التصفيق الملائكي
وحتى الآن: لا يزال التصفيق الملائكي يحدث على نحو أهدأ لكن ليس أقل حيوية، في مقابل خلفية التاريخ الألماني. قبل ثلاثة أرباع قرن من الزمان كان الألمان يرسلون قطارات ممتلئة باليهود إلى معسكرات الاعتقال في الشرق. والآن، في محطة قطارات ميونخ، كانوا يرحبون بالقطارات التي تحمل لاجئين مسلمين بالطعام والمياه ودُمى على شكل حيوانات وابتسامات.
في إحدى إذاعات الراديو بدأت الاستماع إليها الخريف الماضي، سمعت صحفية من جريدة Die Zeit تُخبر مستمعيها أنه لا بأس من الشعور “بالثمالة” مع قليل من المتعة بسبب هذا التحول. رد صحفي آخر على ذلك التصريح قائلاً “العواقب الوخيمة قادمة في الطريق”.
أخبرني مايكل روث، وزير الشئون الأوروبية الألماني، في أبريل/نيسان أن “الاتحاد الأوروبي في حالة هشة للغاية. آمل أن يعي الناس ذلك”. شكلت موجة اللاجئين، فضلاً عن عدم قدرة ألمانيا على إقناع بقية القارة باتّباع قياداتها في فتح ذراعيها لللاجئين، سبباً رئيسياً لهذه الهشاشة.
خروج بريطانيا
أصبح العالم كله على دراية بالأمر في 23 يونيو/حزيران، عندما صوّت البريطانيون في استفتاء وطني على مغادرة الاتحاد الأوروبي. لم يكن اللاجئون هم جوهر القضية –نادراً ما سمحت بريطانيا لأحد بالدخول– لكن الاستطلاعات أظهرت أن الحد من الهجرة، من داخل وخارج الاتحاد الأوروبي، كان الدافع الرئيسي للتصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
يتسبب ما حدث في بريطانيا، وأيضاً تزايد المعارضة الشعبية لظاهرة الهجرة في دول أخرى، في تزايد مخاطر ما يحدث في ألمانيا. فهل يستطيع الألمان حقاً أن يلقوا من فوق كواهلهم الماضي الثقيل لتصبح ثقافتهم مُرحبة بالآخرين؟ إذا كان الأمر كذلك، ففي عالم يمتلئ على نحو متزايد بكل من المهاجرين ومَن لديهم رُهاب الأجانب، ربما ثمة أمل لنا جميعاً.
فولكر دام واللاجئين
في منتصف السبعينيات، عندما كنت في المدرسة الثانوية في مدرسة بروكسل الألمانية في بلجيكا، كان معلم الدراسات الاجتماعية رجلاً يدعى فولكر دام. رغم أني أميركي، كان والدي يتواجد كثيراً في أوروبا، والتحقت أنا بالمدارس الألمانية حتى الجامعة. كان دام طويل القامة، ذا شعر أشقر مجعد ينحسر عند جبهته، أما وجهه فكان منحوتاً بصورة لا تعكس سلوكه اللطيف والمتعاطف.
كان واحداً من المعلمين المحبوبين في المدرسة. في صف مادته عرفت لأول مرة عن الهولوكوست، وقد أخذ فترة لا تُنسى يقرأ بصوت عال روايات شهود العيان في معسكرات الاعتقال. كان دام الذي ولد في عام 1939 في السادسة من عمره عندما انتهت الحرب. كان والده -مدرساً أيضاً- زعيماً في الحزب النازي في قرية صغيرة في ولاية هسن الألمانية، ولكنى لم أكن أعرف ذلك وقتها.
لم نكن على اتصال لما يقرب من 40 عاماً، ولكن لم يكن من الصعب العثور على دام؛ كتبت صحيفة محلية تقريراً عن عمله التطوعي لضحايا الجريمة. بدأنا المقابلة، وعلمت أنه أثناء تقاعده يُعطي دروساً للاجئين المراهقين، الذين وصل عشرات الآلاف منهم إلى ألمانيا وحدهم.
دعاني دام لزيارة روتنبورغ أن دير فولدا -وهي بلدة في ولاية هسن بها أكثر من 13 ألف مواطن وتقع بالقرب من وسط البلاد- حيث قضى معظم حياته المهنية. وقال إنه حتى الآن تتعامل البلدة مع موقف اللاجئين بشكل جيد.
العمدة جرونوالد
في صباح أحد الأيام الممطرة خلال الشتاء الماضي، صعدت أنا ودام عبر الدرج الخشبي البالي لمبنى البلدية الذي يعود للقرن الـ 16 إلى مكتب طالب آخر تتلمذ على يده، وهو العمدة جرونوالد.
روتنبورغ مدينة جميلة، وقديمة، وتتجمع بيوتها نصف الخشبية حول ساحة السوق وعلى طول نهر فولدا، بجانب القصر وحديقته.
خارج النوافذ الطويلة لمكتب جرونوالد، أكدت أجراس الكنيسة البروتستانتية على وصولنا في الوقت المحدد وهو التاسعة صباحاً. جنوب شرق المدينة، في ألهيمير كازيرن، والتي تعني “مركز الاستقبال الأولي” وهو عبارة عن قاعدة للجيش فوق الوادي اللطيف، كان 719 سورياً وأفغانياً وعراقياً، ولاجئون آخرون يبدأون يوماً آخر.
“ثكنات هضبة ألهايمر”
جرونوولد شخص مفكرٌ سريع الحديث يبلغ من العمر 39 عاماً، بشعر أشقر قصير ونظارة سوداء وجسد نحيف، فضلاً عن ابتسامة يضعها دوماً في وضع استعداد لكي يبديها متى أراد. منذ انتخابه قبل 5 أعوام، يحاول جرونوولد أن يبث الطاقة ويدفع بعجلة العمل في المحال التجارية الفارغة بمدينته.
بيد أن قدوم اللاجئين لم يكن ما توقع حدوثه، حسبما اعترف سريعاً. عندما أخبرته ولاية هسن مطلع يوليو/تموز بأن مئات اللاجئين سوف يصلون في 3 أغسطس/آب، انفجرت تلك الأنباء “كما لو كانت قنبلة”، حسبما قال جرونوولد.
ملأ ما يقرب من 700 شخص قاعة دراسية لإجراء اجتماع على مستوى المدينة. وقد علموا خلال الاجتماع من المسئولين أن “ثكنات هضبة ألهايمر”، التي أنفق الجيش 40 مليون يورو لترميمها، ثم صدر قرار بإغلاقها آنذاك، ستصبح “مركز استقبال أولي”، حيث يتم تسكين اللاجئين فيه خلال الأشهر الأولى لهم في ألمانيا خلال انتظارهم للفترة التي تتطلبها عملية التقدم بطلب للجوء والعيش في ألمانيا بصورة دائمة. كان المركز الرئيسي لإيواء اللاجئين بولاية هسن ممتلئاً عن آخره كما أفاد المسؤولون، كان الناس ينامون داخل خيم منتشرة خارج المركز.
ركن النازية
في قاعة روتنبورغ، كان التحفز هو الشعور السائد لدى الحاضرين. سأل أحد الأشخاص: من سيدفع مقابل ذلك؟ وسأل آخر: هل سيُسمح للاجئين بالخروج خارج المركز؟ كما طرح آخر سؤالاً يقول: هل هم ناقلون للعدوى؟ يقول جرونوولد “كان الخوف هو الشعور السائد، ولكن لم يجرؤ أحد بأن يقف ويقول: أنا خائف، أنا لا أريد ذلك”. وأضاف أن أحداً لم يرغب في أن “يُرسَل إلى ركن النازية”، حسبما يقول التعبير الألماني الذي استخدمه عمدة المدينة للتعبير عما دار.
استقبل توماس بادر، مدير الرعاية التمريضية بالولاية، مكالمة من وزارة الشؤون الاجتماعية لولاية هسن في آواخر يوليو/تموز، طالبه فيها المسؤولون بتولي مسؤولية إدارة مركز اللاجئين. وصل بادر يوم الأربعاء الموافق 29 يوليو/تموز، واستلم هاتفاً محمولاً في ضوء ما يتطلبه المنصب الجديد.
كان من المنتظر أن تصل أول دفعة من اللاجئين يوم الاثنين. هاتف بادر جرونوولد، الذي أرسل اثنين من الموظفين ثم حضر بنفسه فيما بعد، ثم بدأ هو وبادر بتنصيب المناضد والكراسي داخل المطعم. يقول بادر “بعد يومين، كان ثمة 600 شخص ينتظرون أمام البناية”.
لقد كانت فترة شديدة الازدحام بشكل جنوني، لكنها مرت بشكل جيد. كانت الأمور أكثر صعوبة في أماكن أخرى. يقول آنسيلم سبراندل، منسق اللاجئين في هامبورغ “لم يكن أي شخص مستعداً، لا أحد في ألمانيا كان مستعداً”. كانت المدينة مضطرة لإيواء 35 ألف لاجئ خلال العام الماضي، وهو نصف العدد الذي تستقبله الولايات المتحدة بأسرها.
وعن ذلك يضيف سبراندل “لم يكن لدينا حالات تشرد، حيث ينام الناس في الخارج. إلا أن الأمر كان قريباً من ذلك”. أسكن فريق سبراندل الناس في بعض المتاجر المفلسة التي كانت تعمل في تطوير المنازل، وفي وحدات تخزين مصنوعة من حاويات السفن، وفي خيم حرارية.
أما في برلين، أُسكن كثير من اللاجئين في صالات الألعاب الرياضية بالمدارس أو في حظيرة طائرات داخل مطار تمبلهوف. وكانت الحواجز البلاستيكية فقط هي ما يفصل الوحدات التي تسكنها العائلات عن بعضها البعض.
في روتنبورغ، اصطحبني بادر عبر الممرات النظيفة داخل الثكنات العسكرية التي تتكون من ثلاثة طوابق، وكنا نمر أثناء سيرنا على الغرف التي اعتاد الجنود أن يتشاركوا مساحتها، والتي تسكنها الآن الأسر الواحدة.
ورغم أن اللاجئين نُقلوا ووُزعوا على مراكز محددة -كان نصيب ولاية هسن 7،35890% من إجمالي عدد اللاجئين، حسب ما توضح المعادلة الفيدرالية لمشاركة الأعباء- وصلت في اليوم السابق لجولتي عائلة عراقية مكونة من 6 أفراد إلى مركز روتنبورغ. وقال بادر “انتشرت الأخبار عن الأماكن التي تجري فيها الأمور بلطف”.
المشهد لا يتغير
صار مشهد اللاجئين ثابتاً في شوارع روتنبورغ. يمكنك أن تراهم يبذلون جهدهم لكي يصعدوا التل نحو القاعدة العسكرية، بينما يدفعون أمامهم عربات الأطفال والدراجات القديمة ويحملون أكياساً بلاستيكية.
وفضلاً عن الغرف التي حصلوا عليها، ثمة ملابس تبرعات ومزايا عينية أخرى، كما يحصلون على بدلات نقدية شهرية تصل إلى 112 يورو للشخص البالغ و63 يورو للطفل. يقول فرانك زيجنباين، صاحب فندق لاندهاوس زيلبرتان المحلي “المال الذين يحصلون عليه ينفقونه هنا في المدينة”. لكنه يبالغ قائلاً “وإلا فربما يمكنك أن تطفئ الأنوار هنا في روتنبورغ”. بيد أن جرونوولد يؤكد أن اللاجئين شكلوا إضافة اقتصادية.
إلا أن ذلك لم يمنع بعض أهالي روتنبورغ من الاعتراض، خاصة على موقع فيسبوك. ذكر جرونوولد مسرعاً في كلماته الطرق التي واجه خلالها اللاجئون مشكلات مع النظام في ألمانيا. إذ إنهم يتركون القمامة في المنتزهات ويركبون الدراجات على أرصفة المشاة.
وأيضاً ثمة أمر مرتبط بنظافة المراحيض، فكثير من اللاجئين اعتادوا على استخدام المراحيض الأسيوية ذات الفتحات المثبتة في أرضية الحمامات، لذا فهم لا يفضلون الجلوس على المرحاض المعتاد. صعد جرونوولد بقدميه على كرسيه ثم جلس القرفصاء لكي يساعدني على تصور المشكلة أمام عيني.
مراكز هامبورغ
في إحدى مراكز اللاجئين بهامبورغ، قابلت عاملي صيانة يحملون مقاعد المراحيض ويشتكون من أن تلك المقاعد تنكسر باستمرار. في قاعدة روتنبرغ، حيث رأيت لاجئاً شعر بالملل فتطوع لتنظيف الرصيف، يقول بادر أن كل الحمامات ينظفها عمال ألمان لكي يتأكدوا أن كل شيء يتم بشكل سليم. وقد رأيت إحدى فرق العمال وهم يغلقون سحّاب بزاتهم المخصصة للتنظيف ويرتدون الأقنعة وأغطية الرأس لكي ينظفوا روضة الأطفال.
في الحمامات وبعض الأمور الأخرى، يقف الألمان على أحد شاطئي خليج ثقافي في مواجهة الشاطئ الآخر حيث يقف اللاجئون، ولا يزال الجسر بينهما غير مشيد بسبب غياب لغة مشتركة للتواصل. يقول جرونوولد “نحن على بداية الطريق وحسب، فيما يتعلق بتفهم مشاعر وأفكار الآخرين. إن كان لدينا قدرة على تبادلها بشكل أفضل، فإني متأكد من أننا سنستطيع إنجاز شيء تاريخي”. يوضح عمدة المدينة أنه لم يكن من هواة ميركل من قبل، ولم يختر تلك المشكلة. لكنه الآن انغمس فيها كليةً.
على الرغم من وجود استثناءات قليلة لتلك القاعدة، فقد استجابت الخدمة المدنية في ألمانيا لتلك الأزمة كما هو متوقع منها، وهي ما يمكن أن نصفها بأنها استجابة جيدة. لكن اختيار كثير من الألمان أن يستثمروا شخصياً في مساعدة اللاجئين، شكّل مفاجأة كبيرة.
فنان جرافيك
في مدينة دودرشتات الواقعة بولاية سكسونيا السفلى، قابلت فنان جرافيك، وأحياناً دي جيه، يدعى أولاف نافت والذي استضاف مراهقين من إريتريا في العام الماضي. بين لي كيف قابل امرأة من الوكالة المحلية للشباب ذات يوم، وكيف أخبرته عن حاجتهم الشديدة لرعاة ولمنازل للقصر الذين جاؤوا إلى ألمانيا في غير صحبة عائلاتهم.
يبلغ نافت من العمر 51 عاماً، وطفلاه، اللذين رباهما وحده، قد غادرا المنزل بعدما وصلا لسن المراهقة. كان نافت يشعر بالتوتر حيال السكن مع شخص أجنبي -لا سيما حول الشعور المرتبط بكيف سيبدو رجل أعزب عندما يؤوي صبياً- لكنه قرر أن يأخذ الفرصة مع فتى قبطي مسيحي من إريتريا يبلغ من العمر 18 عاماً ويسمى ديسبيل.
اقترب كل منهما من الآخر، لدرجة أن ديسبيل اعترف لنافت بعد ثلاثة أسابيع من وصوله في شهر مايو/أيار، بأن أخاه يوسف البالغ من العمر 16 عاماً عالق في ليبيا. كان ديسبيل على اتصال مع المهربين الذين طلبوا منه 2500 يورو لمساعدة أخيه يوسف لكي يصل إلى ألمانيا. أعطى نافت الأموال لديسبيل. وفي يوليو/تموز تمكن ديسبيل من الوصول إلى يوسف على الطريق السريع في ميونيخ حيث تركه المهربون.
والآن يؤوي نافت في بيته زوجاً جديداً من المراهقين. على الرغم من أنه يجادلهم أحياناً حول إطفاء الأنوار في المنزل وغسل الصحون وأنه هو المسؤول الأول بالمكان، لكنه لا يشعر بالندم، بل إنه يطلق على ديسبيل ويوسف “أطفالي”.
قبل أن أقابله بأيام قليلة، عرف أن يوسف له أخ توأم في السجن بإريتريا. دفع نافت مبلغ 1500 يورو لكي يُخرجه من السجن ويجعله يسافر إلى السودان، حيث كان ينتظر عبور الصحارى الكبرى. يقول نافت إنه كان قطعاً الأخ الأخير.
احتساء القهوة بعد الظهيرة
جلست أنا وهو مع كارين شولت، معلمة متقاعدة تعطي ديسبيل ويوسف دروساً في اللغة الألمانية ثلاث مرات أسبوعياً بدون مقابل. يذهب الصبية إلى مدرسة مهنية في أحد الصفوف المخصصة للمهاجرين، وبعد انتهاء اليوم الدراسي يأتون ليجلسوا في مطبخ شولت.
تعطيهم المعلمة القهوة والكوكيز، لأن احتساء القهوة بعد الظهيرة يعد جزءًا من الهوية الألمانية أيضاً. أخبرتهم في أحد الأيام، بعد تردد استمر فترة طويلة، أنه ليس من اللائق في ألمانيا أن تحتسي القهوة بصوت عالٍ. اعترف يوسف بأن جدته أخبرته أنه ليس من اللائق فعل ذلك أيضاً في إريتريا.
نظمت مجموعة من المعلمين المتقاعدين لمدرسة جيكوب جريم في روتنبورغ، والتي عمل فيها دام مدرساً لعقود من الزمن، دورات تدريبية بالألمانية داخل مركز الاستقبال الأولي. في صباح أحد الأيام، قضيت ساعتين مع جوتفريد واكرباث، وهو رجل ودود ذو لحية بيضاء.
لا يعلم واكرباث شيئاً عن المجموعة التي سيلقي عليها الدرس في ذلك اليوم؛ لأن سكان القاعدة العسكرية يتغيرون كل شهر أو شهرين. تبعه خمسة ذكور من أفغانستان تتراوح أعمارهم بين 12 و 35 عاماً وسط كثير من الوجوه التي تملأها الإثارة. وسوف يعلمهم واكرباث الأبجدية الألمانية من خلال الصور: باء بطة، تاء تمساح.
جلس بجواري ساريل (35 عاماً)، وهو رجل صغير الجسد يرتدي سترة سوداء. كان الجو شديد البرودة داخل الغرفة، وسرعان ما أدركت بأن ساريل لم يمكن متعلماً على الإطلاق، لم يكن يعلم حتى اللغة الفارسية القديمة (الأردية) التي يتحدث بها أهل أفغانستان. كان الصبية أسرع منه في حل التدريبات.
إلى اللقاء
داخل الصف. عندما شاهدته وجدته يكتب الحروف جزءاً جزءاً، كما لو كان يرسم. ساعدته أيضاً في تهجئة كلمتي “بابا” و”ماما”، كما أني تخيلت أن أصير في يوم ما مضطراً لتعلم اللغة الأردية بخطوطها الغامضة التي كتبها الطلاب على اللوحة تحت كلمة “إلى اللقاء”. شعرت بالتعب الذي ينتاب ساريل، ليس بسبب الطريق الطويل الذي خاضه من أفغانستان حتى وصل إلى ألمانيا، ولكن بسبب الطريق الأطول الذي عليه اجتيازه.
في تلك المحاضرة كان الطلبة يتعرفون على اللغة الألمانية لأول مرة، كما يقابلون أحد أصحاب اللغة الأصليين المتعاطفين معهم للمرة الأولى أيضاً. يقول واكربارث “عندما تصادفهم في المدينة فإنهم يقولون “مرحباً يا أستاذ”، ويشعرون بسعادة غامرة أنك تعرفت عليهم.
رجل سوري
في ظهيرة أحد الأيام، قابلت رجلاً سورياً يبلغ من 43 عاماً في روتنبورغ، والذي جاء إلى ألمانيا منذ عامين ونصف وأنهى من قبل دورة لتعلم اللغة استمرت ستة أشهر. تحدثنا في غرفة المعيشة الخاصة به أثناء تناولنا الكعكة التي صنعتها زوجته، وكان علينا أن نتحدث من خلال مترجم يتحدث العربية، اعترف لي بأنه في الحقيقة لم يكن طالباً بالمعنى الحقيقي في مثل سنه.
كان أحمد -الذي رفض الإفصاح عن اسمه الأخير مثل كثير من اللاجئين خوفاً من أن يتسبب الإفصاح عن اسمه الأخير في مشاكل لأقاربه في سوريا- يعمل كهربائياً بدمشق. جعلتهم مصر، حيث هرب هو وعائلته أولاً، يشعرون بأنهم غير مرحب به أما ألمانيا، فقد أعطتهم حق اللجوء والرخاء وتلك الشقة الواقعة في وسط روتنبرغ. كان يشعر بالامتنان الشديد، لكنه بعد عامين لا يزال عاطلاً عن العمل، وكان هذا عصياً على الاحتمال.
يقول أحمد “أذهب إلى السوق وأصطحب ولدي إلى المدرسة، لكني لا أخرج لغير تلك الأسباب؛ لأني سأشعر بالخجل إن سألني أحدهم عن عملي. إنني أكنس كثيراً أمام باب الشقة حتى أفعل شيئاً وحسب”. سألني ما إذا كنت أعتقد أن أي دار للمتقاعدين قريبة من المكان قد تسمح له بأن ينظف المكان مجاناً. كما استعرض أمامي بعض تدريبات اللغة الألمانية التي حصل عليها من شبكة الإنترنت.
يتعلمون الألمانية
في هدوء، استمع إلينا أبناؤه الثلاثة البالغين من العمر 16 و 14 و 8 أعوام، وهم يدرسون في المدارس الألمانية منذ عام ونصف. يتعلم ولداه الكبار في مدرسة جيكوب جريم ويتحدثان الألمانية بشكل جيد.
وقف ابنه الأكبر بشعره الممشط اللامع مرتدياً قميصاً ضيقاً أبيض اللون يحمل كلمة “باريس” بالعربية والإنجليزية، تعاطفاً مع ضحايا هجوم نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حسبما يقول. وكان يتمنى أن يصير مصفف شعر، كما أن كان يتدرب على ذلك بأحد صالونات الحلاقة في الشارع.
أما الفتى الثاني البالغ من العمر 14 عاماً، فقال إنه سوف يبقى في المدرسة أكثر من ذلك، إذ إن معلمه قال له إنه يكتب أفضل من كثير من الطلاب الألمان. كما أنه يلعب بمركز رأس الحربة بفريق كرة القدم في المدرسة.
منذ الحرب العالمية الثانية، استقبلت ألمانيا ما يقرب من 50 مليون لاجئ. فمن بين كل ثمانية مواطنين يحملون الجنسية الألمانية ثمة مواطن ألماني وُلد خارج البلاد. وعندما أعلنت ميركل في الأول من يونيو/حزيران 2015 أن المانيا كانت “دولة مهاجرين” وصفت صحيفة فرانكفورتر العامة ذلك التصريح بـ “التاريخي”.
على مدى عقود من الزمن، رفض حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ذلك الوصف، مفضلاً ألمانيا الموجودة في أحلامه. “كنا دولة مهاجرين في حالة من الإنكار” يقول مارتن لاوتباك، الذي يدير إحدى برامج اندماج اللاجئين في المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، والذي يعرف في ألمانيا بالاسم المختصر له “بامف” BAMF.
هافنغتون بوست