التفكير السياسي المتجدد يمنح على الدوام رؤى متعددةً وآراءً مختلفةً وهو يخضع للتغيير وديناميكيته بقدر ما يعي التاريخ وحكمته والمصالح وحكمها، وهو لخدمة المستقبل قادرٌ على توظيف الماضي كمخزونٍ والمستقبل كأمل والحاضر كمعركةٍ.
وفي لحظات التقلب الكبرى في التاريخ، وأزمنة الفوضى في المنطقة، وعهود الاضطرابات في التوازنات الدولية، والتغيير في التحالفات، صعودًا وهبوطًا واتساعًا وضيقًا، يصبح من الأفضل التفتيش لا عن المخارج الأكثر أمانًا والأجدر بالرعاية، بل عن المشاركة في الخلق والإبداع والتأثير.
إن المنطقة لا يمكن أن تحكم بمشروعٍ طائفي أو مشروعٍ أصولي، وهو ما يمكن تصنيفه ضمن الصراع الهوياتي الذي صعد للسطح قبل عقودٍ تقل أو تكثر، وتعزز بعد ما كان يعرف بالربيع العربي، بل بمشروعٍ معتدلٍ حديثٍ، يعي تلك المشاريع ويحسن التعامل معها، تحالفًا وتخاصمًا، بالقوة الناعمة وبالقوة الخشنة.
إن التفكير في الواقع بوصفه منتجًا نهائيًا وثابتًا يجب التعامل معه كما هو وضمن إطاره المحدد، هو تفكير داخل صندوق من الموروثات والمسلّمات التي قد لا تكون صحيحةً أو صائبةً، وهو تفكيرٌ وإن عززته قوة الواقع يظل تفكيرًا داخل الصندوق، فالواقع في نهاية المطاف هو نتاج تراكماتٍ تاريخية وحضارية وتفاعلاتٍ سياسيةٍ وتغييرات اقتصادية وتطوراتٍ ثقافية، وغيرها كثير من العوامل المؤثرة.
في السياسة تختلط الأماكن بمعجون التاريخ، والشعوب بواقع اللحظة، والقادة بلغة القرار، ويصبح محمودًا النظر بلغة العقل حين يطغى الحماس، وتتم مواجهة التجربة بالسرعة، ومواجهة المسلمات بالتغيير، ومجابهة الخصوم بالفعل لا بردة الفعل.
ثمة ملفاتٌ يمكن فتحها وإدخالها لمشهدٍ يبدو متعسرًا أو غير قابلٍ للحل، وفي هذا الوقت من عمر المنطقة والعالم، يمكن النظر بتركيزٍ واهتمام لملفين بالغي الأهمية في هذه اللحظة التاريخية، وهما الملف الكردي في ما يتعلق بالمنطقة واضطراباتها التي اختلت كثيرًا، وملف دول آسيا الوسطى في ما يتعلق بالموازنات الدولية وتغيراتها.
إنهما ملفان بالغا الأهمية حين يتم تناولهما بالشكل الصحيح، فمظلمة الشعب الكردي فيما بعد التقسيم الحديث لدول المنطقة معروفةٌ، وهم يعانون كثيرًا من تبعاتٍ مراحل سابقةٍ في التاريخ، كما يعانون من التقسيم الطويل في كثير من الدول، واكتساب مودة الشعب الكردي في كل الدول التي ينتشر فيها هي مصلحةٌ خالصةٌ وذات فوائد جمةٍ.
الورقة الكردية تخدم دول الاعتدال العربي في سوريا والعراق وإيران وأذربيجان وتركيا وغيرها من دول آسيا الوسطى، ولئن كان النظر في الخرائط مهمًا لأي صانع قرارٍ أو صاحب رؤيةٍ إلا أنه يختلف باختلاف الناظرين، وبتغير الغايات والأهداف، وورقة دول آسيا الوسطي، يمكن أن تكون بالغة الفائدة إقليميًا ودوليًا.
هذان الملفان لو تم التعامل معهما بشكل صحيحٍ، ستضمنان قوةً جديدةً ومضاعفةً لدول الاعتدال العربي، فمنها محاصرة إيران من جهة الشمال بشكلٍ كاملٍ، ومشاغبتها شرقًا عبر أفغانستان وباكستان، ومن الشمال الغربي عبر الأكراد.
كما أن الوجود القوي والفعلي على حدود الصين الغربية وروسيا الجنوبية، يمنح أوراقا مهمةً للتأثير في منطقةٍ شديدة الأهمية في توازنات العالم الجديد، فلم يعد ثمة قطبان كما فكر كيسنجر، ولا أوراسيا واحدةً كما فكر بريجنسكي.
حتى على مستوى الطاقة، فكردستان ودول آسيا الوسطى لديهما كثير من البترول والطاقة التي يمكن الاستفادة منها، وستكون ورقة كردستان سهلة التحريك ضمن الموازنات الإقليمية، ولكن ورقة آسيا الوسطي أكبر وأهم، فهي ورقةٌ تقدم تغيرًا جيوسياسيًا بشكل أكبر من دول أميركا الجنوبية على سبيل المثال، ويمكن خلق إطار سياسي واقتصادي متكامل لبناء علاقاتٍ تكون أكثر عمقًا وفائدةً من دول أميركا الجنوبية، ومن دول شرق آسيا، وإن كان في كلٍ خيرٌ.
كثير من دول آسيا الوسطى لديها أقليات داخل إيران، ومن حقها أن تطالب بحقوقها وحمايتها من أي اعتداءات إيرانية داخلية بعنف النظام وأمنه وتعسفه الداخلي، ولديها مبررات دولية معترفٌ بها، فثمة أرمينيا في شمال إيران، وأذربيجان، والإقليم التابع لها وغير المتصل بها ناخيتشيفان، والتي تفصل بينهما أرمينيا، وتركمانستان، وبحر قزوين الذي تقع عليه داغستان، وكازاخستان. ثم أوزبكستان وطاجيكستان، وقرغيزستان.
تقع الصين كدولةٍ عظمى في شرق هذه الدول، وروسيا في شمالها، وهي دولٌ مهمةٌ بذاتها وبقوتها وكذلك بموقعها المهم، وهي دولٌ بالغة الأهمية لأمننا الإقليمي، والدولي في آن واحدٍ، ينبغي رصد هذه الدول، وميزان التبادل التجاري معها، وقوتها الاقتصادية، ومكانتها في أسواق الطاقة، كما في تركيبتها الطائفية والعرقية، كما في تحالفاتها الإقليمية، والأقليات التابعة لها في دول الجوار، وكلما تعمّقت المعرفة بهذه الدول عبر الإحصائيات والأرقام، والمعلومات المهمة، والوعي بالمساحة والسكان وحجم الاقتصاد والتبادل التجاري، والتنوع الديني والعرقي والمذهبي، ومدارس السلوك المنتشرة، أمكن خلق مناخات أفضل للتعاون.
التحديات التي تواجهها دول الاعتدال العربي متعددة الجوانب، فمنها توجه بعض الدول الغربية الحليفة إلى إيران ذات المشروع الطائفي وتركيا ذات المشروع الأصولي، وكذلك استحواذ إيران على العراق بشكل كبير، وعلى سوريا على مضض، وتبقى الورقة الكردية مهمةً في هذا الجانب وغيره كما تقدم.
فلو تم تعزيز العلاقات مع الملف الكردي بشكل عامٍ، لكان مدخلاً كبيرًا إقليميًا ودوليًا، مع مراعاة كل التفاصيل التي قد تدفع باتجاه التخفيف أو التصعيد بين آونةٍ وأخرى، والأكراد يشكلون حليفًا مهمًا وقويًا في العراق، وكذلك في سوريا، ومن قبل ومن بعد وهو الأهم حليفًا في إيران وفي غيرها من الدول، هذا مع ما يمنحه الملف الكردي من ورقة ضغطٍ كبيرةٍ على بعض الدول الغربية في كثير من الملفات.
لن يكون لهذين الملفين تأثير سياسي سلبي على بعض الأطراف، فعلاقات الدول تبنى على المصالح، وتعزيز الدول العربية لحضورها الإقليمي والدولي هو رعايةٌ لمصالحها لا ينبغي أن يضرّ بأحدٍ غير الخصوم، إضافة إلى أن الأكراد يعدون من أقوى محاربي حركات الإرهاب كتنظيم القاعدة وتنظيم داعش في العراق وسوريا، كما أنه يمكن أن يكون عامل استقرار في ظل لعب الخصوم وقدرتهم على إرباك المشاهد من خلال الأدوات والأفكار الأكثر تخلفًا كالطائفية والأصولية والعرقية والإرهاب.
أخيرًا، هاتان الفكرتان أصولهما قائمةٌ بالفعل، والحديث عن تعزيز العلاقات والمصالح المشتركة ودفعها لمستوى جديد، يخدم الطرفين، ويمنح قدرةً أكبر على التأثير في ملفات المنطقة والتعامل الأمثل مع أي اختلالٍ في التوازنات الدولية.
العربية – الشرق الأوسط