وجّب الاستماع إلى المؤتمر الصحافي الذي عقده سعيد خطيب زادة، الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، وقراءة تقرير صحيفة Tehran Times بالإنكليزية؛ كي تُتاح للمرء فرصة أفضل للوقوف على تصريحات رئيس النظام السوري بشار الأسد خلال لقائه مع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي؛ ضمن برنامج الزيارة الأخيرة الخاطفة، غير المعلن عنها مسبقاً، التي قام بها الأسد إلى طهران مؤخراً. بين «الدرّ الثمين» الذي نطق به الأخير هذا المثال الأوّل: «مقاومة إيران وموقفها الثابت على امتداد العقود الأربعة الأخيرة في المسائل الإقليمية، وخاصة مسألة فلسطين، أظهرت لشعوب المنطقة قاطبة أن الدرب الذي سلكته إيران هو الدرب الصحيح المستند إلى المبادئ». «درّة» ثانية سارت هكذا: «يعتقد بعض الناس أنّ دعم إيران لجبهة المقاومة يعني الدعم بالسلاح. لكنّ المساندة والمساعدة الأشدّ أهمية هي نفخ روح المقاومة في المنطقة ومواصلة القيام بهذا». وأمّا النموذج الثالث، التالي، فلعلّه صاحب السبق في الضلال والتضليل وإضافة الإهانة إلى جراح الملايين من أبناء سوريا وفلسطين وإيران في آن معاً: «الدمار الذي أحدثته الحرب يمكن إعادة بنائه، ولكن لو دُمّرت الأسس والمبادئ فهذه لا يمكن إعادة بنائها. ومقاومة الأمّة الإيرانية على أساس الركائز والمبادئ التي أقامها الإمام الخميني، وتواصلت مع جهود سيادتكم، تعبّد الطريق إلى انتصارات الأمّة الإيرانية وشعوب المنطقة، خاصة الشعب الفلسطيني».
المرشد الأعلى، من جانبه، لم يفوّت الفرصة لممارسة الطراز الخاصّ به من تنافخ لا يتوسل سوى التضليل، فأثنى على الدور الشخصي الذي لعبه الأسد لضمان «انتصار سوريا في الحرب الدولية» التي شُنّت عليها؛ بحيث بات «رئيس البلد وشعب سوريا محطّ تشريف حقيقي في أنظار أمم المنطقة». وإذْ غمز من قناة «رؤساء بعض البلدان المجاورة الذين يتلقون مع قادة النظام الصهيوني ويحتسون القهوة معهم» تناسى خامنئي أنّ الأسد الجالس إلى يساره احتسى القهوة مع أحد هؤلاء، محمد بن زايد، قبل أسابيع معدودات فقط؛ ولا يغيّر من الحال أنّ الفناجين الإماراتية قُدّمت في مرآب، وليس في قصر منيف. وضمن إطراء «الشهيد» قاسم سليماني، حرص خامنئي على ربط سلال النفوذ الإيراني، وحروب طهران الأسبق والأوسع في المنطقة، فاستذكر أنّ «حماس الشهيد في سوريا لم يختلف عن نهجه خلال ثماني سنوات من دفاع إيران المقدس» في إشارة إلى الحرب العراقية -الإيرانية.
وخلال المؤتمر الصحافي المشار إليه أعلاه، لم يُطرح على خطيب زادة أيّ سؤال يخصّ الـ«معكرونة غيت» أو الفضيحة التي باتت تُنسب إلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، على خلفية الارتفاع الخرافي في أسعار الأكلة الشعبية الإيرانية، والارتفاع المماثل في أسعار الخبز؛ بتأثير أوّل مباشر هو خفض الدعم الحكومي عن الدقيق المستورد، الذي لا علاقة له بما تشيعه السلطة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية بعد الغزو الروسي في أوكرانيا. انتقاد سياسات رئيسي في هذا الملف جاء من جهات متعددة الأغراض والمواقع، كما في رأي عبد الناصر همتي الرئيس السابق للبنك المركزي ومنافس رئيسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، الذي اعتبر أن خطط الرئيس لن تخفف أي عبء عن ذوي الدخل المحدود؛ أو الانتقاد، اللافت تماماً، الذي خرج به قائد وحدة الفضاء الإلكتروني لمنظمة الباسيج الاستخباراتية (مالكة الاسم الرسمي»قوّات تعبئة الفقراء والمستضعفين») الذي اتهم رئيسي بالانشغال عن قضايا الشعب والتفرّغ لتفكيك شبكات التهريب التابعة للرئيس السابق حسن روحاني!
خامنئي لم يفاتح ضيفه/ تابعه الأسد حول الـ«معكرونة غيت» مثلاً بعد أن حدّثه عن قهوة الصهاينة، لا لشيء إلا لأنّ الأسد آت وهو محمّل بمئات الفضائح الغذائية والمعاشية التي تطحن حياة السوريين اليومية
والصلات الوثيقة بين مشكلات الشعب الإيراني المعيشية وسياسة التدخل الإيراني المباشر في سوريا، بما تنطوي عليه من تبعات اقتصادية في المقام الأوّل؛ ليست البتة جديدة، وهي تحتلّ مكانة الصدارة في أحاديث الإيرانيين اليومية، لأنها في الآن ذاته تحظى بموقع متقدّم في برامج الساسة قبل آيات الله. والأمر يمكن أن يبدأ من القلق على مصير النظام السوري، ويمرّ إلى ضرورات مساندة «حزب الله» المتورط في قتال مباشر مع نظام الأسد، ولا ينتهي عند مباركة الحملات المحمومة والهستيرية الداعية إلى تطويع الإيرانيين للذهاب إلى سوريا والدفاع عن المقامات الشيعية هناك. وأياً كان المبتدأ والمنتهى، فإنّ عناصر مثل رغيف الخبز اليومي الإيراني، على شاكلة ربطة المعكرونة هذه الأيام، يصعب أن تغيب عن هذا المشهد من جهة أولى؛ ويندر، من جهة ثانية، أنها لا تخلّف عواقب حساسة وجسيمة وبعيدة الأثر.
وليست بعيدة في الزمن مواقف الرئيس الأسبق الإصلاحي محمد خاتمي في التحذير من «تشويه أفكار الإمام الخميني» واتهام السلطات الايرانية بـ«تصدير» العنف الى بلدان أخرى (في غمز من مفهوم «تصدير الثورة» الشهير)؛ وكذلك اقتراح تأويل مضادّ للمعنى الذي قصده الإمام الخميني من المصطلح: «هل نحمل السلاح ونتسبب بانفجارات في بلدان أخرى؟ هل نشكّل مجموعات للقيام بعمليات تخريب في بلدان أخرى؟ الإمام كان يعارض بشدّة أعمال الإرهاب ويدعو في المقابل إلى نموذج يقوم على وضع اقتصادي جيد، واحترام البشر، ومجتمع يتجه الى الرخاء وتحسين ظروف الجميع». يومذاك كانت ردود الفعل الرسمية، أو شبه الرسمية، قد بلغت شأو الدعوة إلى «محاسبة» خاتمي على تصريحاته «غير الوطنية» التي «لا ينجم عنها سوى تلطيخ سمعة الجمهورية الإسلامية وتأكيد اتهامات لا أساس لها يطلقها الاستكبار العالمي» كما قالت صحيفة «كيهان» الناطقة باسم المرشد الأعلى.
وذات يوم غير بعيد بدوره اشتدّ التأزّم بين الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد وعدد من كبار البرلمانيين المحافظين، على خلفية سياساته الاقتصادية، وازدياد معدّلات التضخم، وانخفاض قيمة الريال الإيراني؛ فانقلب إلى تجاذبات عقائدية تمسّ بعض أقدس مبادئ الفقه الشيعي، فوضعت نجاد في مواجهة مع بعض آيات الله وحجج الإسلام، حول أقواله بأنّ «يد الله سوف تظهر وترفع الظلم عن العالم» وأنّ «أعداء إيران يعلمون أنّ عودة المهدي الغائب حتمية». يومها اعتبر حجّة الإسلام علي أصغري أنّ «من الأفضل لأحمدي نجاد الاهتمام بمشاكل المجتمع مثل التضخم»؛ وتهكم حجة الإسلام غلام رضا مصباحي هكذا» «إذا كان نجاد يريد أن يقول إنّ الإمام الغائب يدعم قرارات الحكومة (…) فمن المؤكد أنّ المهدي المنتظر لا يقرّ التضخم الذي بلغ 20 في المئة، وغلاء المعيشة، والكثير غيرهما من الأخطاء» التي ترتكبها الحكومة!
إيران اليوم أسوأ من إيران البارحة على هذه الأصعدة المعاشية اليومية، ولم يكن منتظراً من خامنئي أن يفاتح ضيفه/ تابعه الأسد حول الـ»معكرونة غيت» مثلاً بعد أن حدّثه عن قهوة الصهاينة؛ لا لشيء إلا لأنّ الأسد آت وهو محمّل بمئات الفضائح الغذائية والمعاشية التي تطحن حياة السوريين اليومية، وقد تندرج في تسميات مثل الـ» البطاقة الذكية غيت» أو الـ»سكّر غيت» أو الـ»أوكتان غيت» أو… «الشنكليش غيت».
وللقارئ الذي لم يسمع به بعد، مضى زمن انطبقت خلاله على أقراص الشنكليش صفة «طعام الفقراء» قبل أن يصبح امتياز «الأكابر»؛ لأنّ سعر الكيلوغرام الواحد كان، في سنة 2010 فقط، لا يتجاوز 350 ليرة سورية، وهو اليوم لا يقلّ عن 11 ألف، وثمة مَن يروّج لأصناف فاخرة منه بقيمة 18 ألف ليرة.
هذا محض نموذج واحد على الوضعية «المشرّفة» للبلد، كما تفاخر بها خامنئي أثناء استقبال الأسد؛ ومع الاعتذار من عنوان قصيدة محمود درويش الشهيرة، فإنّ حال المضيف ومضيفه أقرب إلى تشخيص مأساة الشنكليش وملهاة المعكرونة؛ وما كذّبوا تكذيبا!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس