لم يكن صحافيون أميركيون وبريطانيون يدركون أن إعلامهم كان مضلِّلا للرأي العام، في شأن الأزمة السورية، إلى أن أُتيحت لهم فرصة مقابلة رئيس النظام بشار الأسد. وقد بدوا، وفقاً لما نشروه، كأنهم تعرّفوا أخيرا إلى “الحقيقة” من فم القاتل مباشرة، وقد كان حريصاً على أن يصحّح مفاهيمهم، مروّجاً عبرهم للمرّة الألف رواية أن كل مَن يقاتله هو “إرهابي” بالضرورة، حتى الذين قضوا تعذيبا في سجونه وصوّرهم “قيصر” قبل أن ينشقّ ويغادر سورية. كانت لدى الأسد أخبار كثيرة يكشفها للمرّة الأولى أمام هؤلاء الإعلاميّين، إذ علموا منه مثلاً، أنه ينوي البقاء في منصبه حتى انتهاء ولايته سنة 2021، وأنه “الرئيس” لكنه “ليس مسؤولا شخصيا” عما حصل في سورية ولسورية. من المسؤول إذا؟ “إنها الولايات المتحدة”… ماذا عن إيران وميليشياتها، ماذا عن روسيا؟ لا الأسد تحدّث عن حليفَيه، ولا ضيوفه ألحّوا في السؤال، لذلك قالوا أنهم قابلوا رجلا “مطمئنا”، حتى أنه لم يهاجم تركيا والسعودية كعادته، بل ترك ذلك لـ ”أبو بكر البغدادي” الذي بدا كمن يبثّ، قبيل سقوط “خلافته” في الموصل، كلمة أُعدّت له في طهران.
كان ذلك اللقاء بكل تفاصيله من أسوأ لحظات الصحافة، تحديداً في نقطتين: الأولى، أنه أتاح للأسد أن يسخّف اتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن يستخدم فائضاً من السفسطة لردّ الاتهامات إلى دول الغرب وإعلامه بأنهما يميّزان بين “جرائم إرهاب” (يقترفها تنظيم “داعش”) و ”جرائم الحرب” (يقترفها النظام باعتباره “الدولة”)، في حين أنه لا يرى سوى إرهابيين في مواجهة أنصاره. كان الأسد واثقا بأن الإعلاميين الأجانب الذين يخاطبهم تناسوا أو تجاهلوا مثله عشرات المجازر التي نفّذتها قواته قبل ظهور “الإرهاب الداعشي” الذي لم يعد الغرب يرى سواه في سورية. كان واثقا أيضاً بأن هؤلاء الإعلاميين جاؤوا للاستماع إليه أكثر مما جاؤوا لطرح أسئلة تشتبه بدور للنظام وحليفه الإيراني في تمكين “داعش” من السيطرة والانتشار، بل إن استخدام السلاح الكيماوي، وهو جريمة حرب مثبتة، لم يستحق أي تنويه على رغم تأكيدات التحقيق الدولي الذي تتعامل معه روسيا بكل ديماغوجيتها لتمييعه ومنع مجلس الأمن من إدانة نظام الأسد.
النقطة الأخرى تتعلّق بالتغيير الديموغرافي الذي أصبح واضحاً أن الأسد يعتمده لضمان مستقبله وإدامة وجود حليفه الإيراني في سورية. فالعبارة التي مرّت في تقرير “نيويورك تايمز” نسبت إلى الأسد القول بأن “النسيج الاجتماعي أصبح أفضل مما كان سابقا”. وتفسير ذلك أن سياسة الحصارات التجويعية هي التي أتاحت التطهير المذهبي الذي أدّى بدوره إلى “تنقية” النسيج الاجتماعي في مناطق لم يبلغها “داعش” ولا أي تنظيم إرهابي معروف، وأن الأسد يعتبر إخلاء أي مدينة وبلدة من سكانها “انتصارا” حقيقيا، فيما يتولّى الروس والإيرانيون من جهة والأميركيون من جهة أخرى، محاربة الإرهاب الذي كان له ولحليفه الإيراني الدور الأكبر في تصنيعه واجتذابه، سواء لتعزيز “شرعية” النظام أو لإضفاء “شرعية” على التدخل الإيراني. ففي الأعوام الثلاثة الأولى من الأزمة، كان التركيز على “المؤامرة الكونية”، وبعدها تحوّل إلى “محاربة التكفيريين”. بل إن ما يفسّر التغيير الديموغرافي هو ببساطة ما يتوارد الى أهالي داريا والمعظمية والزبداني وغيرها من مدن الغوطة، وهم في “المنفى” الإدلبي، من أن شيعةً عراقيين ولبنانيين وأفغاناً استُقدموا للسكن في ما تبقّى من منازل كانت لهم.
كان هذا اللقاء مع صحافيين أجانب مختلفاً عن لقاءات سابقة، إذ واكب مؤتمرا نظمته “الجمعية البريطانية – السورية” التي يرأسها والد زوجة الأسد، بهدف البدء بتلميع النظام ورئيسه استنادا إلى أنه باقٍ في منصبه وأن الدولة والحكومة موجودتان ويحسن التعامل معهما بالنسبة إلى المستقبل. هذه هي الرسالة التي أراد الأسد إطلاقها، وتولّى وزير خارجيته وليد المعلم صياغتها بأن “من شأن الغرب أن يعيد التفكير في سياساته”، وإذا فعل فإن حكومة النظام سترحب بذلك وإنْ كانت لا تتوقع تعاونا من جانب الولايات المتحدة. غير أن النظام يتطلّع إلى تعاون غربي معه باعتبار أنه حقّق “الانتصار” أو اقترب منه، ولذلك يحسن أن يبدأ التفكير والتخطيط لـ ”ما بعد الانتصار”. ولدعم هذا التوجّه، قال الأسد: “حتى اللحظة، لا يزال لدينا حوار من خلال قنوات مختلفة، حتى مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني التخلي عن سيادتنا وتحويل سورية إلى دولة دمية”. كان الأفضل أن يسأل حليفتيه روسيا وإيران عما تعتقدانه في شأن “الدولة الدمية”، وكذلك عما آلت إليه “الدولة” و ”الحكومة” وحتى المؤسسة العسكرية. بل كان الأفضل أن يسأل على الأقل العسكريين الأكثر موالاةً له عما يعتقدونه في شأن “السيادة”، خصوصا أنه حوّل ضباطه وجنوده الى منسّقين وعاملين تحت الإمرتين الروسية والإيرانية، وجعلهم حتى في مناطق النظام تحت رحمة ميليشيات محلّية يتنازعها الروس والإيرانيون كسبا لولائها وتعاونها معهم.
ينطلق الأسد في فهمه الأزمة السورية، من أن الولايات المتحدة أرادت تغيير نظامه لأنه “لا يتناسب مع معاييرها”، وطالما أن هذا الهدف لم يتحقّق فلا يعني ذلك سوى أنه انتصر، بدليل أنه لا يزال في منصبه، تماماً كما اعتبر صدام حسين أنه انتصر في حرب الخليج الثانية (1991) لمجرّد أنه ونظامه بقيا على رغم الدمار الكبير للعراق. وبالتالي، يراهن الأسد على أن الغرب سيذعن للواقع، وسيستأنف العمل معه بـ ”معاييره”. المفارقة أنه قد لا يكون مخطئا، فهناك في الغرب مَن هو مستعد لبيع القيم التي يدّعي الدفاع عنها لقاء الأوهام التي يعرضها الأسد عليه، وعلى رأسها أن الإرهاب ومحاربته كافيان لمحو جرائم النظام ونسيانها، وأن وجود “دولة الأسد” يقدّم السيناريو الأفضل بديلاً من الفوضى العارمة في حال سقوطها. ثم إنه يلوّح بـ ”تغييرات سياسية” وبـ ”عهد جديد من الانفتاح والشفافية والحوار”، بعد الانتصار. أي أنه كان “مضطرا” لإسقاط أكثر من مليون سوري بين قتيل ومعوّق ولجعل أكثر من نصف الشعب بين مهجّر في الداخل ولاجئ في الخارج ليصبح جاهزاً للتغيير (متخلّصاً من ثلث الشعب السوري) وللحوار (مع ذاته) وللانفتاح بإسكان لبنانيين وعراقيين وأفغاناً في بيوت السوريين الذين شرّدهم.
ربما يستند الأسد في توقعاته الغربية، إلى ما أسداه من خدمات ينتظر أن يُكافأ عليها، ويمكن إجمالها في ثلاث:
أولا، إنه يعلم يقينا أن واشنطن لم تسعَ يوما إلى إسقاطه، بل إنها بذلت كل ما تستطيعه لمنع المعارضة من تشكيل تهديد حقيقي له أو لنظامه، سواء في تفاهمات كيري – لافروف أو في تفاهمات كيري – ظريف أو في تفاهمات أميركا – إسرائيل التي ألحّت فيها الأخيرة على حماية النظام وعدم تسليح المعارضة طالما أن الأسد يقوم بما يتوجب عليه حتى من دون أن يُطلب منه، بدءاً بتحويل الأزمة إلى مواجهة مع الإرهاب، مروراً بتوريط إيران و ”حزب الله” اللبناني واستنزافهما، ووصولا إلى توريط روسيا.
ثانيا، إن الأسد قدّم إلى أميركا وإسرائيل هدية إستراتيجية لا تقدّر بثمن، إذ استطاع في نظرهما أن يقدّم نموذجا “عربيا” إجرامياً قلّد من جهة صدام حسين وتخطّاه بقدرته على نسج تحالفات تمكّنه من البقاء، كما قدّم من جهة أخرى كل المسوّغات اللازمة لـ”شرعنة” الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أو على الأقل لإضعاف قضية الشعب الفلسطيني سواء بالنسبة إلى حقوقه المشروعة أو لاعتبارها القضية العربية المركزية.
وثالثا، إن مساهمة الأسد في إضعاف سورية إلى حدّ تفكيكها، تمثّل للأميركيين والإسرائيليين ذروة توقعاتهم الإستراتيجية، إذ إنها تتيح لهم مراجعة خرائط الشرق الأوسط وإعادة تخليق العالم العربي وعلاقاته وتحالفاته. فالسقوط السوري والدور الإيراني فيه يقدّمان فرصا لمدّ الاضطراب إلى دول أخرى، واستغلال الصراع العربي – الإيراني لتعميم الاضطراب في المنطقة. ولعل هذا ما يشار إليه اليوم بـ ”الموجة الثانية” من “الربيع العربي”، وإذا حصلت فلن تكون لها هذه المرة أي علاقة بطموحات الشعوب.
(عن صحيفة الحياة اللندنية)