شاهد السوريون “مؤيدون ومعارضون” والعرب والعالم أجمع جلوس الفرقاء السوريين إلى طاولتين في مكانين وزمانين مختلفين بعد مرور سنوات من القتال الذي خلّف مئات الآلاف من الضحايا المدنيين وملايين المهجرين والمشردين في الداخل والخارج, فكانت أولى الجلسات على الطاولة “الكازاخستانية” في العاصمة أستانة بعد أن دفعت كل من روسيا وتركيا الأطراف المحسوبة عليهما في هذا الصراع إلى هذا اللقاء الذي ضم ممثلين عسكريين بهدف تثبيت وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في لقاء سابق في العاصمة التركية أنقرة بعيداً عن مناقشة الحلول والرؤى السياسية.
ثم كان اللقاء الرسمي المرتقب في مدينة جينيف السويسرية وحمل رقم “4” وكان برعاية أممية, وشهد حضوراً للأطراف المعنية بالنزاع المباشر وغير المباشر, ولكن السؤال هل فعلاً كرسّت هذه المؤتمرات المتتابعة الدعوات الدولية للتأكيد على أن الحل في سورية هو حل سياسي وليس عسكري؟؟
ولا يوجد مفر من الحل السياسي لإيقاف شلال الدماء النازفة في سورية, كما تريد القوى الدولية التي تتحكم بالملف السوري؟؟
ليس سراً خافياً على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية مع تولي إدارة “ترامب” لمهامها قامت لسببٍ ما أو لعدة أسباب, وتداعيات تراها هي بنفسها بتجميد الدعم ورفعه عن فصائل المعارضة المسلحة, ويمكننا القياس عل ذلك من خلال تأثير هذا القرار الأمريكي على مواقف العديد من الدول “الصديقة للثورة السورية” التي تقوم بدعم المعارضة المسلحة, حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية هي بالأساس تقوم بالتشويش على رغبة هذا الدول في الدعم, وهنا بدأت مرحلة جديدة تتميز بمعايير مختلفة للصراع على الأرض وخصوصاً بعد نجاح الحلف الثلاثي “روسيا وإيران والنظام” في إخراج الثوار بشكل كامل من داخل الأحياء الشرقية لمدينة حلب إلى خارجها, وقد ساهم هذا الحدث في رأي العديد من المحللين العسكريين في إعادة الأمور إلى بداياتها الأولى بالشكل الذي يجعل مهمة المعارضة المسلحة في المراهنة على إسقاط النظام بالحل العسكري في غاية الصعوبة, وخصوصاً مع استمرار تناقضات إعادة توزيع مناطق نفوذ الأطراف اللاعبة في سورية من جديد.
فمحيط دمشق يكاد يصبح خالياً من تواجد الثوار لصالح النظام وحليفته إيران, والمناطق الوسطى تسعى روسيا جاهدة إلى مساعدة النظام في توسيع رقعة نفوذه فيها باتجاه الشرق, أما الساحل السوري فهو تحت الحماية الروسية الكاملة التي تحولت إلى احتلال حقيقي يبني قواعد عسكرية دائمة له في المتوسط, أما الشمال السوري تتداخل فيه الأمور بشكل كبير مع رغبة تركيا في الاتجاه شرقاً نحو مدينة منبج بعد الباب, بحيث تصطدم مع الرغبة الأمريكية في استمرار وجود قوات سورية الديمقراطية.
وفي نفس السياق تحاول روسيا عن طريق دعمها للنظام و قيامها بالاتصال مع قيادات “قسد” لإعادة تموضع سلطة عسكرية للنظام في هذه المناطق, في حين تعيش محافظة إدلب حالة مرعبة من استمرار الغارات التابعة لروسيا ونظام الاسد بل وحتى طيران التحالف.
كل هذه الأمور نقلت النظام من وضع المدافع إلى حالة الهجوم, وأعطته مزيداً من الراحة وإعادة ترتيب الاوراق لصالحه, لكنه يدرك جيداً في نفس الوقت أن أوراق اللعبة ليست كلها بيده بل إن انتصاراته هي انتصارات للمشاريع التي تحافظ على وجوده, تماماً كما حدث في حلب حيث نشرت روسيا أعداداً من جنودها “الشرطة العسكرية الروسية”, وهنا تم تمييز الفوارق بين رؤية النظام ورؤية روسيا ورؤية إيران, وإن كانوا يقاتلون في خندق واحد.
أين باتت المرحلة الإنتقالية من هذه المؤتمرات؟
منذ البداية هناك من قال إن الصورة العسكرية على الأرض, هي التي سترسم ملامح الصورة السياسية في نهاية المطاف, ويمكن القول أن سقوط حلب أعاد ترتيب الكثير من الحسابات وهذا ما سعت كل روسيا وإيران له وبالتأكيد استفاد منه النظام, لذلك كان لابد للمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري المحاولة لإجراء مناورة سياسية من نوع آخر تماشياً مع المتغيرات, أملاً منها في الحفاظ على ثوابت الثورة, ولكنها اصطدمت بضغوط كبيرة من قبل حلفائها العرب والأجانب, وأحيانا قامت الأمم المتحدة بتوجيه رسائل تحذير من نوع قاسي “حتى ولو كانت بعيدة عن النزاهة” إضافة لتفرد روسيا في إدارة العديد من الأدوات, بل إنها تدخّلت حتى في قرار تشكيل وفد المعارضة وقامت بفرض منصات قريبة منها ومن النظام “كمنصتي موسكو والقاهرة”, ومن هنا أدركت المعارضة أن التضييق العسكري عليها هو بداية للقبول بالحل السياسي, وعدم التفكير نهائياً بالمراهنة على الحل العسكري, ولكن المضحك المبكي هو استمرار النظام ومن خلفه روسيا وإيران بالمضي في هذا الخيار وسط صمت دولي وربما “تواطؤ” أممي, فالعهود لا تحترم والاتفاقات لا يؤخذ بها, والالتزام بالتطبيق هو بعيد كل البعد عن حساباتهم.
لذلك لم تكن نتائج الأستانة وجينيف4 هي في صالح الثورة والثوار, وهناك من قال أنها استمرار لسياسة شراء الوقت واللعب على عامل طول الأزمة الذي بات يستنزف الثوار أكثر من النظام, فكان المراد من جينيف هو إعطاء المعارضة بعض المناصب الغير مؤثرة وربما حقائب وزارية لا معنى لها في حكومة “وحدة وطنية” تكون تابعة للسلطة العسكرية للدولة المخابراتية العميقة في دمشق, ولكن من غير المنطق أن نقول أن ما تمخض عنه جينيف4 سيمكن النظام وحلفاءه من إعادة “العجلة” إلى نقطه الانطلاق “الصفر”, فكثيراً ما فشلت محاولات العديد من الاطراف في تمرير مخططات من الخارج إلى الداخل وإن نجحت بعضها, فالثورة السورية وإرادة الشعب السوري وصبره هزم العديد من اللعب الدخيلة..
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي.