لم يربط تعليق واحد اكتشاف شبكة الاتجار بالبشر في فنادق جونيه في لبنان بانتقام لبنانيين من سوريا من خلال المتاجرة بلحم بنات سوريات تحت غطاء شبكة دعارة.
فكرة الانتقام واردة لولا أن الدعارة والقوادة “اقتصاد ظل” سبق تكون المجتمعات. لكن الدعارة سابقة لمهنة القوادة، بل كانت محترمة بطريقة ما قبل وصم الأديان للمهنة بالمهانة، حتى أن ملحمة جلجامش كانت تصف البغي بالمقدسة، تخصيصا للبغايا اللواتي وضعن أنفسهن في خدمة المعبد.
وفكرة الانتقام غير واردة لكون أعداء سوريا الأسد بالأمس، في معظمهم، هم أصدقاؤها اليوم، والعكس بالعكس، فمن هو المنتقم؟ دع عنك أن مخترعي كذبة جهاد النكاح لهم ارتباط ما بهذه الفضيحة الإنسانية التي لم تكشف خيوطها حتى اليوم.
وإذا كان عمل الشبكة من باب البزنس، لكونها تنتمي لعالم تجارة الرقيق الذي يدر سنويا حوالي 500 مليار دولار على ممتهنيه عبر العالم، بالتساوي مع المخدرات، فإن ذلك يفرض الاعتناء بـ“أدوات العمل”، والاعتماد على عقود بين الراغبة/ الراغب في العمل ورب العمل، بحيث يحفظ كل منهما حقوقه ما أمكن، مع إدراك كل من الطرفين أن هذا العمل غير قانوني، فالقواد لا يدفع ضريبة، والعاهرة كذلك، ومن هنا لا تعترف الدساتير الغربية بأي عمل لا يساهم في الخزينة العامة، ولذلك هو اقتصاد ظل، يدر دخلا غير قانوني، ويساهم في انفلات التضخم إن لم تكن الحكومات تتحسب له.
لا يمكن أن تكون شبكة جونيه مجرد شبكة دعارة، فهي أولا خارج حسابات أي شخص خارجها، وخاصة الدولة، إن جاز لاقتصاد الظل أن يكون جزءا من سوق، وثانيا لا إرادة حرة للفتيات الـ75 للدخول والخروج من هذه السوق التي تشرف عليها الدولة، لكون السوق تتيح الدخول فيها والخروج منها بحرية. ربما دخل البعض من هؤلاء الفتيات في الشبكة بإرادتهن، وفي ظروف عادية بالنسبة لبعضهن، بغض النظر عن ظروف المقتلة السورية، بمعنى أن إحداهن على الأقل كانت مقتنعة بممارسة مهنة الدعارة لإعالة نفسها، ومقتنعة أن مواهبها ودراستها لا تتيح لها عملا أفضل أخلاقيا، وأسهل، وبدخل جيد يمكنها من مساعدة أشخاص تعيلهم. هنا، كان الإنساني أن تخرج أي فتاة من هذه السوق/ الشبكة بإرادتها، وعندها ستكون الأمور عادية.
المعلومات المتاحة بعد كشف الفضيحة تؤشر إلى استغلال مجموعة من رجال الأعمال/ القوادين لفتيات تائهات في لبنان دون عمل أو يقين أو عائل، وإجبارهن على تقديم أجسادهن لمدة 15 ساعة يوميا، ضمن شقق وفنادق محروسة، وفي ظروف اعتقال رهيبة نتردد في تصديق كل تفاصيلها، حين يقال إن القواد قطع لسان إحدى الفتيات عندما رفضت تنفيذ أوامره، الشك في تصديق ذلك لجهة عدم تصور وجود مثل هذه الوحشية، وإن كان مبدأ القواد لا يقف عند حد من الخسة، على كونه بلا كرامة حتى في ما يتعلق بعرضه هو نفسه. التفاصيل غير الكاملة لم تتكلم على أعمار الفتيات، ومتى تورطن في هذا العمل، فقط تم الكشف عن مكان الشقق والفنادق والتعذيب والترهيب، وحالات الإجهاض الـ200 لـ75 امرأة/ فتاة.
يعرف العاطل عن العمل بأنه من يرغب في العمل ويبحث عنه ولا يجده. وللبطالة أنواع، كأن تجد عملا لا يحقق لك الاستقرار المادي فلا يرضيك، أو لا يحقق طموحك، فتتركه.
في حالة فتيات شبكة جونيه لم تبحث الفتيات السوريات عن هذا العمل، وحتى لا نبالغ، ربما كان عدد منهن مجبرا سلفا على ذلك بحثا عن المال، وربما المتعة، أو وهم المتعة، أو لأسباب أخرى، وأعرف شخصيا قصصا تعود إلى ما قبل عام 2005، عن فتيات سوريات كن يسافرن مرة في الأسبوع أو أكثر، إلى لبنان للعمل في الدعارة بلبنان، والعودة مساء إلى بيوتهن أو جامعاتهن. ربما بحث بعضهن عن هذا العمل بشكل فردي، لكن وجود 75 منهن في شبكة واحدة ينسف فكرة أنهن سعين إلى هذا العمل بإرادتهن. ثم إن القواد، كمدير أعمال لهن، فرادى وجماعة، يفرض أن يقدم لهن الحماية، وينظم أمورهن مقابل أجر، فهذا مبرر وجوده، ما ينفي صفة شبكة الدعارة، ويثبت فكرة الاتجار بالبشر.
اكتشاف الشبكة لم يكن مفاجأة للسوريين، حتى مع الصدمة التي شكلها، ولم يكن مفاجئاً لمن تابع القضية، إلا لمن يعتقد أنه يعيش في مجتمع خرج من المختبر معقما منذ لحظات، فدكتاتور الشرق، وتوحش المال في الغرب، ساهما في تكبير حجم القطاع الموجود منذ آلاف السنين، وليست المفاجأة أيضا في وجود قوادين سوريين ولبنانيين، أحدهم كان محققا في المخابرات الجوية السورية، وليست مفاجأة أن تقع سوريات في قبضة عصابة رقيق، بإرادتهن أو مجبرات، فقبلهن وقعت فتيات روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وفتيات عراقيات بعد احتلال العراق، في قبضة العصابات نفسها في الشرق والغرب؛ المفاجأة ستكون في إفلات المجرم القواد من العقاب، في لبنان هذه المرة.
لبنانيون عاملون في مجال حقوق الإنسان حذروا من ذلك، كما حذروا من تواطؤ محتمل لنافذين في الدولة اللبنانية في “لفلفلة” القضية بعد فراغ الإعلام منها، كما حدث مرارا مع شبكات الاتجار بالأطفال في مهنة التسول، أما وزير الشؤون الاجتماعية في لبنان رشيد درباس، فقد بدا خارج الواقع، الأحد الماضي على قناة الجزيرة، حين ادعى أن دولة لبنان لم تُضيق على سوري واحد في حياته ومعيشته، ولم تبعد سوريا من لبنان لأنه خالف شروط الإقامة.
لماذا يجد السوريون والسوريات، أنفسهم، عراة أمام شبكات الدعارة والتسول في لبنان الحريات التي لا تُطاق، يا رشيد درباس؟
كاتب وصحافي سوري
علي العائد – العرب