ذكّرتنا التظاهرات السلمية التي خرجت في المدن والقرى السورية، خصوصاً التي لا تقع تحت سيطرة النظام، كما هي الحال في حلب وحمص وريف دمشق وريف درعا، بأصل الصراع في سورية، وضمناً في بقية دول الربيع العربي، وأنه، على عكس ما يروّج النظام وحلفاؤه بأنه حرب على الإرهاب، صراع بين السلطوية والديمقراطية، وبين القمع والحرية، وبين قوى الاستبداد وقوى التغيير. وهو الصراع الذي كاد أن يُطمس، تحت وطأة الحرب الطاحنة التي تدور رحاها منذ عام 2011. ذكّرتنا التظاهرات، أيضاً، بأن كل ما يُقال عن عسكرة الثورة، وتحوّلها إلى حربٍ أهلية، كان مجرد استثناء عن الأصل، وأن العمل السلمي، والاحتجاج الشعبي، هو الطريق الذي اتبعه السوريون، منذ البداية، للمطالبة بحقوقهم المشروعة في الحرية والانعتاق من الاستبداد، وأن النظام الحالي يتحمل الجزء الأكبر في “عسكرتها”، نتيجة لصلفه وعناده وعدم استجابته لهذه المطالب.
ذكّرتنا التظاهرات، أيضاً، بأن الشعب السوري، على الرغم من كل ما تعرّض له من قتل وتدمير وتخريب وتهجير (والآن محاولات للتقسيم) لم يعدم الوقوف على قدميه، مرة أخرى، لإعادة التأكيد على ما رفعه، قبل خمس سنوات، من مطالب عادلةٍ وواضحةٍ، وأهمها الحرية والكرامة. ففي الوقت الذي اعتقد فيه بعضهم بأن “روح” الثورة السورية، بشعاراتها ومطالبها وفاعلياتها السلمية، قد قُبرت تحت وقع الرصاص والبراميل المتفجرة والصواريخ الروسية، خرج شباب الثورة، أو من تبقّى منهم، بالشعارات الأولى نفسها للثورة، وأهمها شعارات “الشعب يريد إسقاط النظام” و”الثورة مستمرة” و”عاشت سورية ويسقط الأسد”.
“ذكّرتنا التظاهرات، أيضاً، بأن كل ما يُقال عن عسكرة الثورة، وتحوّلها إلى حربٍ أهلية، كان مجرد استثناء عن الأصل، وأن العمل السلمي، والاحتجاج الشعبي، هو الطريق الذي اتبعه السوريون، منذ البداية، للمطالبة بحقوقهم المشروعة في الحرية”
الصور الحية التي نقلتها بعض وسائل الإعلام لهذه التظاهرات السلمية، والتي غلب عليها أيضاً الطابع الشبابي، كما كانت الحال في الأيام الأولي للثورة، تنسف كل الصور النمطية التي حاول النظام والإعلام الموالي له، والسائرون في ركبه من سلطوياتٍ ونخبٍ وشخصياتٍ مؤيدة، تكريسها وترسيخها، طوال السنوات الخمس الماضية، حول الإرهاب والطائفية والعسكرة. وهي صور تضرب سردية النظام حول الثورة في مقتلٍ، وتعيد الاعتبار إلى سردية “الشعب” طرفاً أصيلاً في الصراع.
كسرت التظاهرات، أيضاً، حالة الاحتكار السياسي للثورة من بعض الفصائل المسلحة التي حاولت اختطاف الثورة وتجييرها لصالح مشاريعها السياسية والأيديولوجية، بعيداً عن الأهداف الحقيقية للثورة، وحولت المطالب الثورية إلى مطالب فئوية وطائفية خاصة بها، وهو ما أدخل الثورة في متاهة التطييف والتحزب الأيديولوجي والسياسي. بكلمات أخرى، فقد أعادت التظاهرات الثورة إلى مالكها الأول، وهو الشعب بمفهومه الواسع، وليس الطائفة أو الجماعة أو الحزب.
الأكثر من ذلك، فقد بدت فترة السنوات الخمس الأخيرة (وتحديداً منذ عسكرة الثورة أواخر عام 2011) وكأنها مرحلة قطيعة بين نقطتين ثوريتين، أولاهما كانت في أواخر فبراير/شباط 2011، والثانية كانت، قبل أيام، في مختلف المدن السورية. وهي قطيعة استثنائية في ملحمة الثورة التي هي القاعدة والأصل. صحيح أن مياهاً كثيرة جرت في بحر الثورة السورية، بدءاً من تغيير مسماها إلى “الحرب الأهلية”، مروراً بتغيير طابعها السلمي إلى الطابع المسلح، وانتهاءً بالصراع الإقليمي والدولي الدائر على أرضها، إلا أن الوجه الحقيقي للثورة ظل موجوداً وحاضراً في العقل الجمعي للسوريين، وقد عبر نفسُه مع أول هدنةٍ مؤقتةٍ حدثت، وحين توقفت أصوات القنابل، كي يسمع الجميع صوت الشعب السوري، مطالباً بالحرية والكرامة والديمقراطية.
ما قالته التظاهرات السورية الأخيرة لن يختلف كثيراً عما يمكن أن تقوله بقية بلدان الثورات العربية، لو سُمح لشعوبها، وتحديداً شبابها، بالخروج والتظاهر السلمي. وهو ما يعني أن كل محاولات القمع والتفزيع من الربيع العربي، ومن مطالب التغيير، قد فشلت في إثناء الشباب العربي عن الاستمرار في الدفاع عن حلمه بالحرية. وأن الوجه السلمي للربيع العربي لم يمت، على الرغم من محاولات الأنظمة السلطوية جرّ الشباب العربي إلى مربع العنف من أجل ذبحه، وتبرير قمعه لاحقاً، تحت يافطة الحرب على الإرهاب.
أما الدرس المهم فهو للحكومات الغربية التي تعتقد خطأ بأن الشباب العربي يمكنه مقايضة الاستقرار بالحرية، أو أنه يمكن أن يتوقف عن السعي إلى التغيير، لمجرد أنه لا يمتلك القوة اللازمة لفرض أجندته وشروطه. فمن المؤسف أن نقرأ أن حكومة النرويج، على سبيل المثال، تعتقد أن الديكتاتوريات العربية هي الوسيلة الأنجع لحماية الأمن الأوروبي، وأنها تتبني مقولة الأنظمة السلطوية في المنطقة بأن الربيع العربي هو سبب المشكلات التي تحيط بأوروبا الآن، بدءاً من مشكلة اللاجئين، وحتى مشكلة الأمن والاقتصاد. وهي هنا تقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه قبل عقود، حين دعمت، أو غضت الطرف عن إجرام الديكتاتوريات العربية وسلطويتها، فكانت النتيجة على الانفجار الكبير الذي لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم.
ليست المشكلة، إذا، في التغيير أو الثورة، وإنما في الإصرار على صم الآذان عن الاستماع لمن يطالبون بهما وقمعهم. فمشكلات الأمن واللاجئين والهجرة وغيرها ما هي إلا مجرد أعراض لمرض عُضال اسمه “الاستبداد”، وبدون معالجة هذا المرض، فسوف يظل ينتشر ويستفحل، حتى يصيب الجميع.