استبشر الشعب السوري خيراً كبيراً مع أول طلقة رصاص أطلقها الثوار في دمشق على تخوم ساحة العباسيين بعد سبات الجبهة لشهور “عجاف”, في حين عجزت جبهات أخرى عديدة عن الاستمرار وأخرج ثوارها منها إلى الشمال باتفاقات اختلف الكثير من السوريين في مسألة تحميل مسئوليتها, فمنهم من يتهم عدداً من الفصائل بالتقيد والارتباط بأمر الداعم الذي يبدو وكأنه لا يريد لهذه الجبهات الحساسة القريبة من معاقل النظام في دمشق أن تستمر, وقسم آخر من السوريين التمس عذرا “للمغادرين بأسلحتهم الخفيفة”ً نتيجة اتّباع النظام سياسة الحصار والتجويع للمناطق التي يسيطر عليها الثوار.
المهم من كل ذلك هو حدوث ما لم يكن بالحسبان, وهو انفجار جبهة حي القابون فجأة وبدون سابق إنذار ورأس الحربة فيها فيلق الرحمن بالمشاركة مع بعض الفصائل الأخرى “يا عباد الله اثبتوا”, أثبتت تلك الهجمة المفاجئة صحة العبارة التي تقول:
“إطلاق طلقة في دمشق من فصائل المعارضة يعادل تحرير بلدة في مناطق أخرى”.
وذلك نظراً لحساسية المعارك في العاصمة التي يحاول النظام السوري جاهداً تحييدها وصنع حزام “آمن” له حولها, وعلى الفور طبعاً بدأت انعكاسات المعارك على تخوم العاصمة دمشق بالظهور, فأعلنت الفصائل في الشمال عن قيامها ببدء معركة شاملة أطلقوا عليها أسم “وقل اعملوا”, وككل مرة جاءت نتائج المعركة الإيجابية لصالح الثوار باكراً وأخذت الحواجز والبلدات تتهاوى أمام تقدم الفصائل العسكرية الواحدة تلو الأخرى.
وككل مرة أيضاً بدأت أخبار الانتصارات والتحرير ترواح في مكانها حتى لم نعد نسمعها, بل بدأنا نسمع الأخبار التي تتحدث عن صمود الثوار والمقاتلين على جبهات القتال وسط جنون حقيقي من سلاح الجو الروسي الذي بات ينتقم من المناطق المحررة في الخطوط الخلفية لهذه الجبهات ولا سيما في مناطق محافظة إدلب المتاخمة للجبهة المشتعلة في ريف حماة الشمالي.
لن ندخل في التفاصيل العسكرية التي لها أهلها المختصين بها, فالتحول من حالة الهجوم إلى الدفاع هو بالتأكيد نتيجة أسباب خارجة عن إرادة الثوار, فقلة عدد المقاتلين وتوسع شريط الجبهة التي تحتاج إلى أعداد إضافية من المقاتلين للتغطية, وإمطار الثوار بكم هائل من الصواريخ والقذائف والقنابل المتنوعة الأسماء والأنواع, هي أسباب كفيلة بانكماش الثوار وتراجعهم عن تلك النقاط التي حرروها في كلا المعركتين, ولكن من حق السوريين أن يسألوا السؤال التالي:
“لماذا لم تتحرك بقية الجبهات في ريف حلب وريف اللاذقية ودرعا والجبهات المتبقية في ريف دمشق؟؟”
سبق للسوريين وأن سلموا بمسألة “الفصائلية” التي باتت واقعا حقيقياً مفروضاً في المناطق المحررة, لأن ثمة من أراد لهذا الواقع أن يتكرس ويتحول إلى معضلة حقيقية من شأنها إفشال أي عمل عسكري يقوم به الثوار, والأكثر إيلاماً أن يتطور هذا الأمر ليجعل من محافظة إدلب التي يستمر النظام في إرسال الثوار الرافضين للتسوية إليها ساحة للصراع الطويل الأمد بين هذه الفصائل التي بدأت تشعر السوريين بالرغبة المعلنة لكل فصيل في فرض سلطته على مساحة محددة من المدن والقرى والبلدات فيما يشبه “الإقطاعيات المتناحرة”, وعلى صعيد آخر يرتهن قادة العديد من هذه الفصائل تحت نير القرار السياسي من دول إقليمية أو خارجة عن نطاق الإقليم بالشكل الذي يلبي مصالح تلك الدول ولو على حساب مصلحة الشعب السوري وثورته, والطامة الكبرى هي تبدل مصالح هذه الدول بين الفينة والأخرى وبدء وانتهاء فترات التفاهم والتخاصم بينها, كل ذلك جعل هذه الفصائل المرتهنة للقرار الخارجي في موضع الشك والاتهام, فهي لم تتشكل للدفاع عن أجندات ومصالح الدول ذات المشاريع القريبة والبعيدة في سورية, هي تشكلت فقط لتحقيق أهداف ثورة الشعب السوري.
هذا السبب وبكل بساطة يفسر لنا اتخاذ بعض قادة الفصائل وضعية الموت السريري وكأن ما يجري في الداخل لا يعنيهم, فقد صمّوا آذانهم عن كل تلك الأصوات التي دعتهم لاغتنام الفرصة وحشر النظام في الزاوية من جديد, فلم تبادر كل تلك الفصائل بمسمياتها الكثيرة إلى فتح جبهة إضافية تشتت ذلك الجهد “الروسي” الإيراني الذي استفرد بالثوار في جبهتي حماة ودمشق, وكأن جبهة حلب والكارثة الكبيرة التي حصلت بإخراج الثوار من داخل المدينة بصفقة سياسية لم تخفيها الدول المتفاهمة عليها قد تم طي سجلها إلى الأبد, وفي نفس السياق التزمت بعض الفصائل الأخرى خارطة جغرافية محدودة بخطوط حمراء في كل من الساحل السوري وريف دمشق رسمتها لهم الدول الداعمة التي لم تعد تخفي ارتباط مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة الامريكية التي اكتشف السوريون ان دعم ثورتهم خارج حساباتها تماماً, بل أعادت فرز أولويات أهدافها وخصومها في سورية جيداً وحيدت النظام السوري عن هذه اللائحة بشكل واضح.
وعلى صعيد المسار السياسي انعكس واقع تشرذم المعارضة التي اتخذت أجساماَ سياسية “تباركها” منصات إقليمية ودولية مختلفة أيضاً على الواقع الميداني, فلم تتمكن تلك المعارضة التي جعلت من فنادق جينيف مزارات شهرية لها من تسخير النتائج الإيجابية الأخيرة لمعارك دمشق وحماة كورقة ضغط كبيرة في ملف المفاوضات, بل ظهرت هشاشتها وتباين النظرة للحل عند جميع مكوناتها.
واقع الانتصارات التي يحققها الثابتون على أهداف الثورة واللاعبون خارج أرضيات الملاعب التي صنعتها الأطراف الدولية المؤثرة لا شك أنه رفع من مستوى عزيمة السوريين وأعاد لهم الأمل من جديد, لكن عدم استجابة بقية الفصائل الأخرى لمطالبهم باغتنام الفرصة أرخت ظلالها على هذه الفرحة من جديد, فإلى متى سيستمر تجار “الفرح والحزن” في ممارسة هذه السياسة التي تلعب بدماء السوريين؟!
واقع مرير لا ينتهي..
المركز الصحفي السوري-حازم الحلبي