حين أنجب الموظف الحكومي خوسيه لويس ومصففة الشعر ماريا ديل كارمين ابنهما إيكر في العشرين من مايو 1981 بمقاطعة موستوليس بالعاصمة الإسبانية مدريد، لابد أنهما أخذاه وكحال البقية في أغلب مقاطعات البلاد ممن يدينون بالديانة المسيحية إلى أقرب كنيسة بغية تعميده ليصبح حسبهم طاهرا نقيا مبرء من الخطايا. تمر الأيام، والشهور، والسنوات ويصبح وصف القديس مرافقا لاسم صغيرهم إيكر وهو شرف لم ينله كثيرون، ليس لأنه اتخذ من الكنيسة سكنا ومن الرهبنة أسلوب حياة، بل لأنه اختار أن يكون حاميا لقطعة قماش يلبسها تعنيهم بشدة، وبضع أمتار من قضيب حديدي وشباك مرمية تتدلى خلفه يذود عنها ويحاول بكل ما أوتي من قوة أن يتركها عذراء منذ أول صافرة تأذن ببداية الصراع حتى الأخيرة التي تعلن خاتمته.
غالبا يختار الصغار ممن يعشقون الساحرة المستديرة أن تكون الشباك أمامهم يضربونها بقوة في كل فرصة تسنح ويرغبون في رؤيتها تتمزق حينا وتلامسها الكرة ببعض الحنان الذي تجلبه جمالية التسديد حينا أخر، لكن إيكر الصغير اختار منذ نعومة أظافره أن يكون عدو هؤلاء حاميا لما يحبون رؤيته ممزقا تلامسه الكرة في كل وقت وحين خلال كل دقائق المباراة التسعين، فكان القفاز سبيله لذلك حيث اختار أن يلبسه في كل لقاء ضد فتيان حيه والأحياء الأخرى حتى يحين موعد دخوله الملاعب الحقيقية ليأخذ مكانه بين جنبات المرمى يسارا مرات ويمينا مرات أخرى.
كان الفتى صغير السن عاشقا لريال مدريد منذ البداية وهو شعور يشاركه إياه الملايين عبر بقاع المعمورة في اسبانيا، وأوروبا، والعالم أجمع وليس فقط مدينته مدريد، حيث كان راغبا بشدة في التميز عن الكل وارتداء القميص المرصع بست بطولات أوروبية، لم يلبث طويلا حتى أخذه والده لإجراء التجارب في النادي قبل أن يتجاوز العقد الأول من عمره، وهي التجارب التي تكللت بالنجاح والقبول فتدرج صنفا بعد صنف سنة بعد سنة، حتى تم استدعاؤه أول مرة للفريق الأول سنة 1997 حين كان بعمر ال16 لكنه لم يُعمِّر رفقة النجوم الملكية طويلا حتى عاد مجددا للظهور واللعب سنتين بعد ذلك في الفريق الأول، ثم عام بعدها حقق دوري الأبطال مع ريال مدريد ضد فالنسيا ليعلن حينها عن انطلاقة تاريخية لأحد أحسن الحراس في تاريخ كرة القدم وبمسيرة حافلة مع الريال دامت خمس عشرة سنة لعب فيها 728 مباراة حقق خلالها دوري الأبطال ثلاث مرات، وكأس السوبر الأوروبية مرتين، وكأس العالم للأندية مرة واحدة، خمسة ألقاب في الليغا، ولقبي كأس الملك، وأربع ألقاب في كاس سوبر إسبانيا، بالإضافة إلى كثير الألقاب الفردية أيضا والتي توشح بها صدره بعد أن جلبتها قفازاته وأنامله الذهبية.
لم يكن تميز إيكر على صعيد الأندية فقط بل قابله تميز أخر مع المنتخب الإسباني والذي أستدعي للعب معه أول مرة سنة 2000 بعد تسديه أوروبا في صنف تحت 20 سنة، قبل أن يثبت مكانه فعليا في كأس العالم بكوريا واليابان حين أعلن عن إصابة كانيزاريس واستبعاده عن القائمة النهائية المشاركة، ليتولى إيكر مهام الذود عن الشباك الملكية حينها تألق بشدة رفقة لاروخا ووصل معهم لربع نهائي المونديال وأخذ رسميا تذكرة المرور للتاريخ الكروي الإسباني عبر بوابة لاروخا.
بداية الصناعة الحقيقية للتاريخ رفقة القميص الأحمر كانت في يورو 2008 حين أصبح قائدا للمنتخب وربانا للسفينة التي شقت البحار الأوروبية وتوجت باليورو بعد 44 سنة من الغياب عن منصة التتويج، سنتين بعدها حققت اسبانيا الكأس الأبرز في تاريخها بعد التتويج بكأس العالم في جنوب افريقيا بعد أداء أسطوري لقائد الفريق رفقة البقية حيث يعتبر تصديه لكرة روبين في النهائي ضد هولندا أحد أكثر التصديات حسما في تاريخ الكأس العالمية، في حين تواصلت إنجازاته بعد ذلك بسنتين حين حافظ أيضا على بطولة أوروبا للأمم للمرة الثانية تواليا والثالثة في تاريخ المنتخب لينصب نفسه فعيا سيدا للحراسة الاسبانية والتي لن ينافسه عليها أحد إلى حين يبدو طويلا جدا.
“الوضع مع مورينيو كان غير مريح على الإطلاق، وعلاقتى مع شخصين داخل النادى أصبحت سيئة”. بهذه الكلمات وصف إيكر خروجه من ريال مدريد باكيا يوما ما في 2015 بعد أكثر من عقد ونصف بالقميص الملكي، حيث فضل القديس تغيير الأجواء على البقاء بين جنبات سانتياغو برنابيو في ظل صافرات استهجان من الجماهير وأيضا خلافه مع رئيس النادي فلورنتينو بيريز في أخر سنواته، والذي سبقه أيضا خلاف مع نجم الفريق كريستيانو رونالدو وخلاف أشد مع المدرب السابق للفريق جوزي مورينيو والذي اتهمه يوما بالخيانة وتسريب أسرار الفريق لصديقته الصحفية سارة كاربونيرو بالإضافة إلى انزعاج السبيشال وان من اتصال إيكر الدائم بزملائه في المنتخب ولاعبي نادي برشلونة حين كانوا يحاولون تخفيف نار الصراع الذي كانت ناره مشتعلة أيام البرتغالي، ليرميه في كرسي الاحتياط طويلا حين عاد من إصابة ألمت به إثر اصطدامه بزميله الظهير الأيمن أربيلوا.
لم تكن تجربة ريال مدريد ختامية للحارس الاسباني بل قرر حمل حقائبه والسفر غير بعيد ليلامس قضبان أخرى غير التي إعتاد على ملامستها، تجربة لم تكن أبدا كسابقتها بل كانت أقل توهجا، وهو الذي بدأ يفقد بريقه بتقدم العمر وثقل القفازات والقفزات حيث فاز فقط بلقبي سوبر وبطولة واحد للدوري، ليعلن اعتزالها رسميا قبل أيام بعد إصابته بأزمة قلبية قبل أشهر حالت دون بقائه حاميا لجنبات مرمى تنانين بورتو.
لا تزال كلمات إيكر ودموعه حين قرر الرحيل عن ريال مدريد نهائيا تنافس لقطات حمله للألقاب والكؤوس المختلفة وتصدياته الخرافية التي جعلت من الكل يناديه بالقديس، ولا يزال الكل يحكم على ريال مدريد بنكران الجميل وعدم جعل نهايات أساطير النادي جميلة بقدر ما قدموه خلال كل دقائق لعبهم بالقميص الأبيض، وبقدر تضحياتهم داخل جنبات سانتياغو برنابيو، حتى الأن لا يزال الجميع يحفظ أن كاسياس قال يوما حزينا “بعيدا عن تصنيفي كحارس جيد أو سيء، أتمنى أن يتذكرني الناس بأني إنسان جيد”. ولم يحفظوا كثير العبارات والصور التي رافقت التتويج والفرح.
نقلا عن: مدونات الجزيرة