خلال الأيام الماضية، سرت إشاعات وتسريبات، وكُتبت تحليلات ودراسات، عن نيّة إيران التخلي عن الرئيس السوري كشخص، مقابل ضمان مصالحها بالمنطقة، لكن السوريين الذين خبروا النظام وإيران طوال العقدين الأخيرين، يرون غير ذلك.
تُعتبر إيران الداعم الرئيسي للنظام السوري منذ أكثر من عقدين ونصف، ومنذ انطلاق الثورة اختلف مستوى الدعم ليصبح مفتوحا، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، فكانت حبل الإنقاذ للنظام ومنعت سقوطه وانهياره، وأصبحت بالنسبة إلى الملايين من المناوئين للنظام شريكة له في سفك دماء مئات الألوف وتدمير البلد. التحالف الإستراتيجي بين إيران ونظام الأسد الأب، تحوّل مع استلام الابن السلطة إلى شراكة في رسم سياسات سوريا الداخلية والخارجية، فعبثت بالتركيبة الطائفية للشعب السوري، وأثارت أحقادا لم يعرف السوريين مثلها من قبل.
قضية رفيق الحريري أقلقت النظام السوري لكنها لم تهدد عرش الأسد، وجاءت الثورة لتكون أول تهديد مباشر لعرشه، فاستعان بـ(الأقربون)، فكانت إيران جاهزة لإرسال السلاح، ومع بدء خسارته عسكريا أرسلت له خبراءها العسكريين، ثم وضعت ميليشياتها الطائفية العربية لخدمته، ومع استنزاف قدرته الاقتصادية فتحت له خزائنها، وأخيرا، وبعد فقدانه السيطرة على أكثر من نصف سوريا، بدأت ترسل له مقاتلي الحرس الثوري لحماية ما يمكن حمايته.
مقابل هذا، كان لا بد من ثمن، فقد سيطرت إيران على القرار السياسي والعسكري السوري وأصبح النظام أداة تنفيذية، ولعبت إيران على المزاوجة بين الحالة القومية الفارسية، والحالة المذهبية الشيعية، ليصبح نفوذ آيات الله أكبر من نفوذ الحكومة السورية، وكل ذلك للإمساك بسوريا كورقة لانتزاع اعتراف دولي بها كقوة قليمية تتحكم بالقَدَر العربي وتعيد أمجاد كسرى.
بالإضافة إلى خسائرها الاقتصادية والعسكرية، خسرت إيران أيضا كل العلاقة الممكنة مع الدول العربية، لأنها راهنت على أحصنة طروادة في سوريا والعراق ولبنان واليمن، لتساعدها على تنفيذ برامجها ذات البعد الطائفي والقومي والعسكري، فاستفزت العرب وهاج بحر كان راكدا لقرون.
اعتقد البعض أن الخسائر المتواصلة لإيران في سوريا، ووضعها الاقتصادي الذي لم يعد يحتمل تعويض خسائر النظام السوري، وخططها العسكرية التي تواجه صعوبة في تنفيذها، وتضحيتها بالآلاف من ميليشياتها في حرب لن تجلب لها العَظَمة، وغرقها في المستنقعين السوري والعراقي، وتكتّل العرب ضدها في عاصفة اليمن، والخشية من “عاصفة حزم” في سوريا، كل ذلك قد يدفعها إلى وضع إستراتيجية جديدة عبر حلول وسط مع المجتمع الدولي، بحيث تتخلى عن الأسد مقابل ضمان مصالحها.
في الحقيقة، هذه الفرضيات لا تُقنع السوريين، وهم من خَبِروا إيران أكثر من غيرهم، وعانوا منها لعقود، ويعرفون مخططاتها طويلة الأمد، الخفيّة والمُعلنة.
من حيث المبدأ، إيران أكثر براغماتية من نظام الأسد الذي يسعى للبقاء في السلطة بأي ثمن، وهي ربما تنظر إليه كعبء وربما تُفكّر في التخلص منه إن حصلت على اتفاق يضمن لها مصالحها، والخمينيون لم يترددوا من قبل في التخلي عن حليف عندما يصبح طرفا خاسرا، لكن من المبكر القول إن حكام إيران سيتخلون عن الأسد لأسباب عديدة.
من هذه الأسباب أن إيران ليست بصدد التخلي عن مشروعها الفارسي، أو بالمعنى السياسي مشروعها كدولة إقليمية متحكمة في القرار العربي، فإستراتيجية آيات الله قائمة على هذا المشروع، كما أن تخلي إيران عن الورقة السورية سيهزّ وضعها في العراق، وسيهدد حزب الله الإيراني اللبناني بالانهيار، وهي بتخليها عن الأسد لن تجد في سوريا من يضمن لها مصالحها، خاصة في دولة ديمقراطية تعددية تداولية، كما يرغب السوريين أن تكون عليه بلدهم، وبالإضافة إلى هذا فإن التخلي عن الأسد سيثير الكثير من المشاكل الداخلية الإيرانية، حيث سيتنبّه الإيرانيون إلى أي مدى أوصلتهم قيادتهم، وبالتالي، على السوريين أن يراهنوا على أي شيء آخر لتغيير النظام غير هذا الرهان.
تعتقد إيران أنها بهيمنتها على سوريا سيطرت على قلب الشرق الأوسط، وبات نفوذها يمتد من إيران مرورا بالعراق، مرورا بسوريا ثم لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله الشيعي، فضلا عن تمويل إيران لفصائل فلسطينية مسلحة تسيطر على أجزاء من فلسطين، وهي في الواقع تحاول خلق “إيرانات” خارج إيران، وتعتقد أنها تقترب من تحقيق حلم طالما داعب خيال قادتها، وهو المشاركة في تقرير مصير الإقليم العربي وصياغة النظام الإقليمي برمته.
بغض النظر عن تخلّي إيران عن الأسد أم لا، فإن إيران خاسرة، لأنها لم تُدرك أي نوع من الجيران أصبحت بالنسبة إلى العرب، وأي عدو باتت بالنسبة إلى الغالبية الساحقة منهم، عدوا مشاكسا مُفسدا، مُشعلا للحروب والفِتن، وجارا طائفيا غير مرغوب فيه.
العربباسل العودات