تتضح الآن من خلال الممارسات العملية بعض ملامح الترتيبات والتغييرات الجديدة في المنطقة. أحدها صار باديا في التفاهمات الأمريكية الروسية بشأن الثورة السورية، مجرياتها ومآلها، إذ المتابع يلحظ انتقالا متدرجا –أو يمكن القول متدحرجا- لكل من مواقف أمريكا وروسيا عن المساندة المطلقة لأحد الطرفين المتصارعين وصولا إلى فكرة المشروع شبه المشترك بينهما على الأرض السورية. وبعضها صار واضحا من خلال الإطلالات والتصريحات الرسمية المصرية الأخيرة بشأن تطوير وتعزيز الرؤية المنادية والمطالبة أو الساعية إلى نمط أعمق من العلاقات مع إسرائيل، إذ ما نراه قد يكون مبادرة لا تقل خطرا عن مبادرة السادات التي انتهت بتوقيع كامب ديفيد ووادي عربة وبعدها اتفاقية أوسلوا، إذ يبدو الأفق المستهدف مباشرة هو الأفق العربي لا المصري فقط، كما يبدو أننا أمام بداية تحولات لدمج إسرائيل في الإقليم.
وبين هذا وذاك تظهر إيران أنها قد وصلت إلى إدراك بعدم قدرتها –في هذه المرحلة على الأقل- على تحقيق هدف السيطرة المعلنة والمباشرة على العراق وسوريا واليمن، وأنها صارت تنفذ خطة تقوم على التوغل بجيشها داخل مساحات من أراضي العراق وسوريا لإقامة مناطق أقرب لدويلات خاضعه لسيطرتها العسكرية المباشرة، وفق نموذج فكرة السياج الحدودي الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان. وفي جانب آخر –مكمل- تجري عمليات أخرى للصراع على قلب الدول عبر ميليشيات وقوى غير نظامية حليفة لها.
تلك الفكرة تبدو جلية في تصريحات قائد القوات البرية الإيرانية التي تحدث فيها عن تحديد مساحة 40 كيلو مترا في داخل الأراضي العراقية لا تقترب منها قوات داعش، وإن دخلت فيها أصبحت هدفا للقوات الإيرانية التي تجهزت لقتال من يدخل في تلك الأراضي، كما تبدو جلية أيضًا في شقها الآخر –في العراق- إذا تابعنا تلك التصريحات الإيرانية التي تحدثت عن تشكيل حرس ثوري عراقي على غرار الحرس الثوري الإيراني. ونحن هنا أمام فكرة السياج الحدودي أو المنطقة المحددة الذي تستعد القوات الإيرانية لمواجهة من يدخل إليها إلى درجة التدخل العسكري المباشر –بما يجعلها خاضعة للنفوذ الإيراني المباشر- ونحن أمام فكرة الصراع الإيراني غير المباشر في بقية أنحاء العراق عبر الحشد الطائفي والحرس الثوري والميليشيات..إلخ.
وتلك الفكرة والخطة كانت واضحة على نحو ما حين أطلق بشار فكرة وخطة سوريا المفيدة، وهي الآن تبدو جلية أكثر بفعل التدخل العسكري المباشر للجيش الإيراني في سوريا. العنوان واضح الآن في قيام القوات الخاصة الإيرانية والفرقة 82 بالقتال المعلن في حلب وفي الاستعدادات الجارية لمعركة حلب..إلخ، وعنوانها العام هو تثبيت الوجود الإيراني على جانب من الأرض السورية والصراع على ما تبقى عبر قوات ومجموعات ميليشياوية حليفة بمختلف أصنافها، ربما لم يعد أهمها جيش بشار الذي أصبح أقل قدرا وقدرة من ميليشيا نصر الله – مثلا.
تلك هي استجابة إيران على ما يبدو للتحدي العربي والإسلامي الذي فرضه الانتقال في الوضع العربي من الصمت وربما الغفلة إلى المواجهة الجزئية أو المناطقية إلى المواجهة الاستراتيجية التي قادتها دول الخليج ووصلت أفقا عاليا في المؤتمر الإسلامي الأخير في تركيا.
وفي ذلك تبدو الإجابة العربية ممكنة وفاعلة، وربما قائمة أيضا، وإن كانت بحاجة لرؤية استراتيجية أكثر تحديدا وتنظيما وجرأة.
الشرق القطرية