عبدالرحمن الخطيب
بات من الممكن الجزم بأن الثورة السورية هي الثورة الحقيقية في الربيع العربي، لما تمايزت به عن بقية الثورات العربية في العديد من الأشياء، منها طول الأمد، وعدد الشهداء والمعتقلين والمهجرين… إلخ. هي ثورة بكل معنى الكلمة، ففي تونس ما حصل لم يتعد انقلاباً عسكرياً خلال وجود الرئيس خارج البلاد، وفي اليمن كانت هناك عملية نظيفة لبيع كرسي، وفي مصر تمثلت الثورة بتجمع عدد هائل من الناس في ساحة كبيرة، تحت أنظار كاميرات وكالات الأنباء ليل لنهار، أما في ليبيا فلم تكن الثورة سوى انقلاب عسكري بمساعدة طيران الحلف الأطلسي.
ولعل وضع سورية السيسيولوجي والإثني والاجتماعي والديني والمذهبي والقومي والثقافي والتاريخي، كان أشد تعقيداً وتشابكاً من أوضاع تلك الدول، فطول أمد الثورة السورية جعل منها مختبر تجارب وغربال تمحيص وامتحاناً للشعب السوري، أي يمكن القول: بقدر ما أفرزت من إيجابيات كان لها بالمقابل الكثير من السلبيات، وهذه الإطالة جعل الله فيها خيراً عميماً للشعب، تصديقاً لقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، ويجدر بنا الآن عمل قراءة استرجاعية متأنية لما أفرزته.
في الحديث عن إيجابيات الثورة السورية لا جرم أن نبدأ بأنها كانت المحرض الرئيس لعودة غالب الشعب السوري إلى التزامه الديني، على رغم مرور أعوام طوال على محاولات تأطيره وأدلجته تحت مفهوم العلمانية والاشتراكية والبعث، وما إلى ذلك من غائييات، مذ أن بدأت الثورة تبدلت حياة الشباب من حياة التفلت والانحلال الخلقي إلى حياة الالتزام الديني الكامل والرجولة بمعنى الكلمة، ومما يؤكد هذا الطرح أن الثورة أخذت طابع الصبغة الإسلامية السنيّة في معظم مناحيها.
من الإيجابيات أيضاً أن الشعب لم تعد تنطلي عليه تلك الشعارات المزيفة التي كان النظام يخدعهم بها طوال أربعة عقود بأنه نظام غير طائفي، فأول ما يمكن الحديث عنه من السمات التي أفرزتها الثورة هو الصبغة الطائفية الإجرامية لدى النظام، واستسهال قتل المعارضين له من أهل السنّة، ممزوجة بنزعة عقابية وانتقامية طائفية حاقدة على بقية الطوائف نسبياً، كما سقط قناع مناداته بالعروبة بتآمره القذر مع إيران على حساب الشعوب العربية، وثالثة الأثافي زعمه أنه نظام ممانع، كشف زيف هذا الشعار تخاذله عن الرد على أكثر من 20 غارة إسرائيلية على جيشه خلال العامين الماضيين، في المقابل كانت طائراته تقلع وصواريخه تنطلق كل يوم لتقصف شعبه، لقد عرّت الثورة زيف كل شيء حولنا من نظام دولي إلى معارضة إلى مجلس أمن إلى حكومات عربية وغربية صديقة ادعت صداقتها للشعب.
في هذا المضمار من الإيجابيات أن المواطن السوري الذي كان يسكنه الخوف من مخابرات النظام تغير، فمن اللافت أن هيبة النظام سقطت، ولم يعد المواطن يخشى رجل المخابرات الذي كان يبرز متعمداً طرف مسدسه من تحت قميصه، ليقول له: «عريف مع مين عم تحكي؟».
من أروع الإيجابيات التلاحم الإنساني الذي لمسناه عند الغالبية، إذ برز جلياً تعاطف الجار مع جاره، والصديق مع صديقه بعد كل غارة كان يقوم بها النظام، إذ يهرع جميع الناس ليرفعوا أحجار الأسمنت والحديد بأيديهم، لإنقاذ من طمرهم ركام سقوط الأبنية، وفي هذا المنحى لا يمكن أن ننسى وقوف بعضهم إلى جانب الفقراء وإغاثتهم وتأمين حاجاتهم من خبز وطعام، أما أعمال الإغاثة الطبية فهي أكثر من أن تحصى، إذ تصدى بعضهم لإقامة العديد من المستشفيات والمستوصفات، وفرغ الكثير من الأطباء والممرضين أنفسهم لعلاج المصابين نتيجة إصاباتهم في أثناء المظاهرات والقتال المسلح.
إذا تناولنا السلبيات التي أفرزتها الثورة فهي في الحقيقة أكثر من الإيجابيات، من أهمها أنها كشفت مدى التفكك في المجتمع السوري، تمثل هذا في إظهار عمق الحقد والغل الذي تكنه الأقليات للأكثرية السنية، وسقوط قناع شعار اللحمة الوطنية والنسيج الوطني. تفكك المجتمع ظهر جلياً حين تشظت المعارضة الخارجية إلى مئات الآيديولوجيات والعقائد والأفكار، وكل لا يقبل إلا بمنصب الزعيم، لقد كان الرئيس السوري شكري القوتلي – رحمه الله – حكيماً عندما قال للرئيس جمال عبدالناصر بعيد الوحدة بين البلدين، حين ربت على كتفه مهنئاً له برئاسة البلدين: «لا أحسدك على هذه الوقعة، فقد توليت أمور شعب كله زعماء»، فبين كل عشرة سوريين يوجد محلل سياسي ومنظر وقائد كتيبة وشيخ عشيرة وفقيه، ومن لديه رغبة في ترشيح نفسه للرئاسة. معارضة بورا، كل باخع نفسه لتسنم منصب، كلما عقدوا مؤتمراً طغى عليه النقاش الطوباوي المنفصل عن الواقع، والسجال المبتذل والمناكفة والمماحكة والتشاحن والتراشق والتنابذ، بل والصفع والركل والضرب بقبضات الأيادي، ولا تنجو من هذا الصراع شريحة معارضة الداخل، إذ يلاحظ فيهم تعدد الاصطفاف والتعصب والتناقض في الرؤى والأهداف والرايات، مثلما يلاحظ فيهم التخبط والاتهام والتشكيك والتخوين والتحريض، أما الكتائب المسلحة المقاتلة فلوحظ أنهم تركوا معركتهم مع النظام وتفرغوا للاحتراب في ما بينهم، على أن ذلك لا يغيب عن أذهاننا أن هذا الصراع نتيجة تراكمات نصف قرن من حكم إثنوقراطي مخادع برسم القومية.
إذا أردنا الحديث عن قضية الفساد، التي كان بعضهم يتهم النظام بأنه راعيها وحاميها، فقد كشفت الثورة أن الفساد متغلل في دماء الشعب إلا من رحم ربي، ولا يمكننا أن ننسى فضائح الاختلاس في المجلس الوطني، وبعده الائتلاف، بل إن فضيحة رئيس هيئة الأركان السابق للمعارضة سليم إدريس، حين باع الأسلحة التي قدمها الغرب للمعارضة، وللنظام نفسه كانت «بجلاجل»، أمراء الحرب نسوا أهداف الثورة الحقيقية وباتوا يسعون لإطالة عمر الثورة ما استطاعوا، لأن نهاية الثورة تعني نهايتهم، لكثرة ما اقترفت أيديهم من جرائم وسرقات، فالاستيلاء على المعابر الحدودية دونه خرط القتاد، لما له من مدخول جيد من فرض الأتاوات.
من الصعب تجاهل التجارة باسم الدين، التي مورست لدى بعض التيارات الدينية، من جماعة الإخوان وغيرهم، ونمو شريحة من بعض الشخصيات المتطفلة التي تمسحت باسم الدين على حساب دماء الأبرياء، بل تردد أسماء بعضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كانوا يجمعون أموال التبرعات باسم الدين، ثم تبيّن بعد ذلك أنهم جمعوا ثروة خاصة لأنفسهم لا بأس بها، بل لقد شوهد ابن أحدهم يركب سيارة دفع رباعي لم يكن يحلم بها لولا الثورة. ومن الجدير هنا تسليط الضوء على قضية هرب معظم الذين ادعوا معارضة النظام إلى الخارج، فمن كانت لديه ثروة بسيطة تمكن من نقل أعماله إلى الخارج، ومن كان فقيراً طلب اللجوء إلى دول الجوار أو إحدى الدول الأوربية طمعاً في راتب إعانة ثابت، بل إن غالب الضباط الذين انشقوا فروا إلى الخارج، ويكأن الانشقاق يعني الفرار للعيش في المخيمات، وتناسوا أن لديهم واجباً وطنياً