شهد مفهوم الثورة عبر الأزمنة المختلفة اهتمام الباحثين والمختصين لتحليل هذه الظاهرة
وتأصيلها، حتى كادت تستعصي على كثير منهم. فقد تكلم فيها الإعلامي البارع، والجندي الثائر، والمواطن البسيط، والفقيه الخطيب، وحتى الحكام الظلمة، كل منهم يعبر عن
فكره وطرحه لمفهوم الثورة ضمن أطر وتحديدات معينة.
ومن المراحل التي تمر بها كثير من الثورات هي الثورة والثورة المضادة، فما إن تقوم الثورة حتى تتبعها مرحلة شلل مضادة ترجع بها للوراء، مما يعيق حركة التحرر والنهوض.
ومن أهم من تكلم عن هذا المفهوم في العصر الحديث هو الباحث والمفكر المغربي مالك بن نبي.
ففي فكر الباحث والمفكر مالك بن نبي، أن الثورة لا تُرتَجل، فهي اطِّراد يحتوي ما قبل الثورة والثورة نفسها، وما بعدها.
فلا يمكن اعتبار الثورة لعبة في الشارع تمارس بشكل عشوائي طفولي، ولا هي
فعل يأتي نتيجة الجهل والرغبة في التخريب، بل هي وسيلة للتخلص من الأنظمة المستبدة والمتسلطة على رقاب الناس. وقد ترفع الثورة أصحابها وتنهض بالأوطان، وقد تكون قفزة للظلام والفقر والتشرد، تردي بأصحابها للتهلكة بلا أدنى فائدة.
في كتابه بين الرشاد والتيه، يؤكد مالك أن الثورة لابد أن تضم مراحل ثلاث عضوية وتاريخية مستمرة، تتخطى الإطار الزمني، ولابد لهذه المراحل من الوجود ضمن هذه الأطر، فإن حدث أي خلل فسوف تكون النتائج كارثية على الشعب الثائر.
مراحل الثورة المفروضة والناجحة:
الثورة الإسلامية التي قادها الرسول محمد عليه السلام، ومدرسته العلمية، بينت لنا أن من أهم مراحل الثورة هي القيادة التي تتجسد في صورة أشخاص أو مدارس فكرية تبث في عروق الثورة أسباب الحياة.
كما أن المادة الأساسية للثورة هي وعي الشعب بالثورة كفعل ونتيجة له، ضمن مجموعة بشرية ذات نضج معرفي، منظمة الحركة إلى درجة عالية، تنشد تغيير الواقع وإصلاحه،
وليست مجامع غوغائية مليئة بالجهل وانعدام التنظيم المعرفي، بل حركة منظمة معرفيا وحركيا تضبط الثورة وتسورها من العوائق والمعضلات.
فالثورة الفرنسية عام 1789 ميلادي أسقطت ديكتاتورية الحكم المطلق وتغذت فكرياً من المدارس التنويرية التي مثّلها المفكر مونتسيكيو، و فولتير، و جون جاك روسو وغيرهم.
والثورة الإنجليزية عام 1688 ميلادي قادها البرلمانيون الإنجليز بالتحالف مع ويليام الثالث، وكذلك الثورة البولشفية عام 1917 قام بها البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين ونهلت أفكارها من مدرسة كارل ماركس .
إذن وجود القيادة المتمثلة بشخص أو مدرسة فكرية واعية ناضجة، من أهم العوامل التي يجب أن تسبق مرحلة الثورة وترافقها إلى غاياتها، والتي تقود للوصول للحريات المطلوبة.
الثورة المضادة:
المتتبع لحال الثورات العربية في كل من مصر واليمن وليبيا وسوريا وغيرها ، يدرك تماما ما آلت إليه الأحوال من تصدع في سير تلك الثورات وانحراف في المسيرة التي بذل لأجلها الثوار مدادا من الدماء، خطُّوها على صفحات من التضحية لنيل الحريات، إلا أن عوامل النجاح كانت مهددة من الداخل في صورة ثورة مضادة أو عداء خارجي للثورة تمثل في تلك القوى التي تريد أن تحول دونها.
فالثورة قد تتحول إلى لا ثورة، أو مرحلة من التوحش الإنساني، بطريقة خفية أو واضحة.
ففي كل مجتمع تنطوي خبايا من الروح اللاثورية بسبب التناقض الإنساني المستمر، وذلك يبدو جليا للمتتبع لتاريخ الثورات ومراقبتها. ويقول مالك بن نبي: ” على الثائرين الروية حتى تتوافر لهم عوامل النجاح ليكسبوا الحرية دون أن يخسروا الأوطان”.
فلا بد إذن من وجود قيادة حكيمة وواعية وكمية نضج معرفي كافي تسبق القيام بالثورة كي لا تخسر الشعوب وطنها وروحا.
إذن التغيير من أهم خصوصيات الثورة، وإنتاج حضارة يحتاج إلى أفكار حضارية والتي تحتاج إلى مناخ من الاستقلال في المستويات الاجتماعية والثقافية، ولقد كان من الضروري أن نقوم بتنخيل ذلك التراكم المعرفي من الأفكار العميقة التي تعرقل مسيرة العطاء والنمو، لأن الأفكار الرجعية لا تنبض بالحياة ولا تدعو إلى التغيير التي لا تقل خطرا على الأفكار الجاهزة التي نستوردها من الخارج، ففي كل مرحلة ما قبل الحضارة، نرى أن كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، ثم تبقى في تراثه الاجتماعية أفكاراً ميتة، تمثل خطراً أشد عليه من خطر الأفكار القاتلة.
محمد إسماعيل/ المركز الصحفي السوري