محمد زاهد غول
ما أن صرح رئيس الحكومة التركية بن علي يلدرم عن موقف بلاده من تصحيح علاقاتها الخارجية مع كل الدول التي ساءت علاقات تركيا بها في الآونة الأخيرة وشمل بها سوريا بقوله: «إن بلاده تعيد النظر في علاقاتها الخارجية مع دول الجوار، وأنّها أعادت العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل، مضيفًا «إننا نسعى إلى علاقات جيدة مع سوريا… سنعود إلى العلاقات الطبيعية مع سوريا ونحن في حاجة لذلك»، حتى ضجت وكالات الأنباء والأخبار كل أرجاء العالم، وظنت بعض القنوات الفضائية وبعض المعلقين السياسيين عليها بأن انقلاباً قد وقع في المواقف التركية، وأن تراجعاً كبيراً قد أقدمت عليه الحكومة التركية بعد ما ادعوه من وصول تركيا إلى أزمة سياسية في علاقاتها الخارجية، مع روسيا واسرائيل ومصر وسوريا والامارات وأرمينيا وغيرها بحسب زعمهم، بل إن بعض المراقبين للحدث التركي صرح بأن الاطاحة برئيس الوزراء السابق داود اغلو كان الهدف منها تغيير تركيا لسياستها الخارجية بطريقة انقلابية، وإلا فإنها مقدمة على أزمات أكبر داخليا وخارجياً، بل قد تطال مستقبل حزب العدالة والتنمية في الحكم والأمن القومي التركي أيضا.
لا شك أن هناك مبررات لهذه الإشكاليات الإعلامية، فتصريحات رئيس الحكومة التركية يلدرم اقتطعت من سياقها أولاً، وحملت أكثر مما قصد منها ثانياً، فابن علي يلدرم يتحدث عن مجمل العلاقات الخارجية التركية بأنها بحاجة إلى إعادة نظر وتصحيح دون عناد ولا مكابرة، فما نتج من أخطاء في المرحلة السابقة لا بد من تصحيحه طالما ان البقاء عليها لا يخدم المصالح التركية، لا المصالح الأمنية ولا الاقتصادية ولا السياحية، بل تؤدي إلى معاناة أكبر للمواطن التركي في حياته المعيشية مباشرة، ولكن دون نسيان أسباب الخلافات السياسية السابقة مع هذه الدول، والنظر إلى مصالحها هي أيضا، ومعاناتها الداخلية وسعيها، مثل المطالب الإسرائيلية لتحسين العلاقات مع تركيا، وتوسيطها لتركيا والاتحاد الأوروبي للمصالحة بينهما، ومثل المطالبة الروسية الاقتصادية الروسية مع تركيا، وللخروج من أزمتها السورية بعد الخديعة الإيرانية لها بتوريطها في الحرب السورية، إضافة إلى أنه لا مبرر لوجود الاختلاف بين روسيا وتركيا لأسباب صغيرة، بينما الخسارة المتبادلة بين الدولتين والمقدرة اقتصاديا بعشرات المليارات من الدولارات كبيرة جدا، فالمصالحة مع روسيا كانت مطلبا روسيا وسعيا روسيا أكثر منه مطلبا تركيا وسعيا تركيا، فلا مبرر لبقاء الخلاف بينهما، والخسارة تلحق بهما معاً.
وقد تناولنا موضوع المصالحة مع إسرائيل في مقالات مفصلة، وإذا وجد طرف يحق له ان يتهم تركيا بالتراجع عن مواقفها او شروطها فهو الطرف الفلسطيني في غزة، وفي مقدمتهم حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي كانت على اطلاع بمجريات التباحث بين تركيا وإسرائيل بخصوص الشرط الثالث على الأقل، وهو طريقة رفع الحصار عن غزة، أو تخفيفه لأسباب تعود لدور مصر والسلطة الفلسطينية وأطراف عربية ودولية أخرى فيه، أخذ موقفها بعين الاعتبار طالما كانت هي أكثر عنادا من الحكومة الإسرائيلية في منع رفع الحصار بالكامل، فكانت موافقة حماس على تخفيف الحصار مقبولا إذا لم يكن رفع الحصار بالكامل ممكناً، وربما استفاد نتنياهو من المواقف العربية المعارضة لرفع الحصار لكسب نقاط في شروط المصالحة، وبالأخص في الجوانب الأمنية والعسكرية، وصمود تركيا لست سنوات دليل على ان إسرائيل هي التي خضعت للشروط التركية، وهو ما عبر عنه خبراء إسرائيليون بأنفسهم.
لقد جاء حديث يلدرم عن سوريا في هذا السياق وهو كما قال في كلمته خلال الاجتماع الـ 110 الموسع لحزب العدالة والتنمية، يوم الأربعاء 13/7/2016: «ضرورة إرساء الاستقرار في سوريا والعراق، من أجل النجاح في مكافحة الإرهاب»، فالسياق والتحدي أمام الحكومة التركية هو النجاح في محاربة الإرهاب الذي اخذ يضرب المدن والمرافق الحيوية التركية، في الحافلات والشوارع والمطارات وغيرها، وعندما تفكر الحكومة التركية بالطرق العملية لمحاربة الإرهاب، فلا بد من إغلاق مصادره المستجدة، فقد بدأت الثورة السورية احتجاجات شعبية لاصلاح الأوضاع في سوريا وليس لنشر الإرهاب في سوريا، ولكن القوى الإقليمية وفي مقدمتها إيران والقوى الدولية وفي مقدمتها أمريكا عملت على تشويه صورة الثورة السورية الشعبية واتهامها بكل التهم الإرهابية، بل وعملت على ظهور تنظيمات إرهابية مثل داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب وغيرها، وهذه تنظيمات إرهابية في نظر الحكومة والشعب التركي لأنها نفذت عمليات إرهابية داخل تركيا، وقتلت مواطنين اتراكا وسياحا أجانب، وأضرت بالأمن القومي التركي لأكثر من سنة بعد انتخابات 2015، وهذه التنظيمات الإرهابية التي تنفذ عملياتها الإرهابية في تركيا تخطط لعملياتها الإرهابية وترسل عناصرها وأسلحتها ومتفجراتها من سوريا والعراق، وعليه فإن النجاح في محاربتها يتطلب التعاون مع السوريين والعراقيين، وبالأخص أن أمريكا وروسيا قد أغلقتا الباب أمام إسقاط بشار الأسد قبل التغلب على تنظيم الدولة «داعش» في سوريا والعراق.
لقد كان رئيس الوزراء التركي واضحا بتغير علاقات تركيا الخارجية حتى مع سوريا، ولم يأت على ذكر النظام السوري ولا بشار الأسد، ولما تم فهم تصريحه السابق بطريقة خاطئة حول وضع بشار الأسد قائلاً في اليوم التالي: «أنّه من المحال تغيير الموقف التركي تجاه القضية السورية ما لم يرحل بشار الأسد عن سلطة البلاد، مشيراً أنّ السبب الرئيسي لتأزم الوضع السوري هو الأسد»، وفي نفس اللقاء الإعلامي مع مراسلة وكالة «بي بي سي»، أوضح يلدرم: «إنّ الأسد تسبب في مقتل أكثر من 500 ألف مواطن سوري وتشريد أكثر من 9 ملايين آخرين بينهم قرابة 3 ملايين يقيمون داخل الأراضي التركية، وأنه يجب إنهاء سلطة بشار الأسد في سوريا، بالتزامن مع القضاء على وجود تنظيم داعش الإرهابي»، وهنا نقطة الاختلاف بين موقف تركيا عن روسيا وأمريكا، فإذا كانت الرؤية الأمريكية والروسية بالقضاء على بشار الأسد بعد داعش، فإن الرؤية التركية مع القضاء على بشار الأسد مع داعش، والسبب من وجهة نظر الحكومة التركية: «انّ تنظيم داعش نشأ نتيجة ممارسات النظام السوري، وأنه من الخطأ تفضيل أحدهما على الآخر»، فلا يمكن القضاء على داعش مع وجود الأسد، ولا القضاء على الأسد مع وجود داعش، وكأنهما وجهان لعملة واحدة في الإرهاب.
فالموقف التركي وعند رئيس الوزراء التركي يلدرم واضح وبحسب تصريحات رئيس الحكومة أيضاً: «لا بد من إحداث تغيير في سوريا، والتغيير كان يجب أن يجري منذ زمن بعيد، ولكن على الجميع أن يدرك بأنّ الأزمة السورية لا يمكن أن تنتهي دون رحيل ما كان سبباً في تأزم الوضع ووصوله إلى ما هو عليه الآن»، ولذلك فإن الحديث عن معالجة العلاقات مع سوريا أو مع مصر هو مطلب أمني لتركيا وللمنطقة وللشعب السوري وللشعب المصري أيضاً، ودور الحكومة أن تبحث عن هذه السبل لتحقيق مصالح الشعوب أمنيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسياً، وهذا ما سوف تبينه السياسات القادمة للحكومة التركية، وليس التكهنات الإعلامية ولا التحليلات السياسية المتشفية أو الواهمة او الحاقدة.
ولعل تصريح رئيس المخابرات الأمريكية جون برينان في كلمة له بمعهد بروكينجز البحثي، يوم 13/7/2016 وهو نفس يوم تصريحات يلدرم نحو سوريا، بقوله أي مدير المخابرات الأمريكية: «بأن بلاده في حالة تواصل مستمر ودائم مع تركيا في كافة المواضيع والمسائل، مشيرا إلى أنه تربطهم علاقات وثيقة بتركيا، وأن تركيا تدعم فصائل المعارضة السورية، وتبذل جهودا حثيثة من أجل الإطاحة بنظام بشار الأسد»، فهذه الشهادة من اكبر مركز امني أمريكي تكفل الجواب على كل من تسرعوا بالترحيب او بالتعزية على الموقف التركي، ظانين أنه انقلاب ضد الثورة السورية لصالح أعدائها.
أما دور الرئيس التركي أردوغان في هذه المعمعة الإعلامية فقد كان صريحاً قبل مدة في تصريح له على مائدة إفطار دعي إليها السفراء الأجانب في تركيا إلى وجود:» تغييرات شاملة في السياسات الخارجية»، وذكر بالقاعدة التركية القديمة في السياسة الخارجية القائمة على قاعدة:» ربح – ربح «، فهذا يمكن تحقيقه لضمان المصالح المشتركة للدول، ولذلك قد لا تكون هناك ضرورة لاعتبارها زلة لسان، لأنها لو كانت كذلك لتراجع عنها يلدرم في نفس الوقت، ولكنها زلة لسان فعلياً باعتبار ما فهم منها خطأ.
وأما موقف الحكومة التركية بقبول بشار الأسد في المرحلة الانتقالية فهذا شأن يعود للاتفاق الدولي الذي تم في فيينا أيلول/سبتمبر 2015 وبعده في جنيف تشرين الأول/أكتوبر 2015 بضرورة تشكيل حكومة انتقالية في ظل النظام الحالي، على أن لا يكون لبشار الأسد مستقبل فيها، مع اختلاف في وجهات النظر الروسية والأمريكية والأوروبية في ذلك، حيث تؤكد تركيا موقفها المؤيد لمطالب المعارضة السورية برفض أي مستقبل لبشار الأسد في عمل هذه الحكومة الانتقالية ولا بعده، وهذا موقف تؤيده الدول العربية والأوروبية، فلا جديد في تصريحات يلدرم بقبول تركيا للمرحلة الانتقالية، وبالأخص أن مجلس الأمن الدولي قد تبناها وأصدر فيها قراره، وأجرى المبعوث الدولي دي مستورا المباحثات السياسية بين الأطراف السورية في جنيف على أساسها.
* نقلاً عن: “القدس العربي”