يقرّ العديد من المحللين العسكريين بفكرة أن الحرب الدائرة في سورية, هي حرب غامضة ومعقدة وغير واضحة المعالم في كثير من أحداثها ومجرياتها, تتعدد فيها الأطراف والأحلاف والقوى المتصارعة على الأرض في السر والعلن.
اتسمت الحرب في سورية على مدار السنوات الخمس الماضية من عمرها باستعارها على مسارين متلازمين أحيانا ومتباعدين في كثير من الأحيان, هما المسار السياسي غير الواضح بصورته العامة, والمسار العسكري الذي يوُصف بالمعقد, أو بشديد التعقيد بعيدا عن المبالغة, لسنا بصدد الخوض في المسار السياسي اليوم الذي بات مطية للتدخلات الإقليمية والدولية وفق المصالح الاستراتيجية الثابتة للأطراف الكبرى اللاعبة في الأزمة السورية, سنركز اليوم على الصورة المتبدلة والمفاجئة للأحداث العسكرية على الأرض.
بالأمس القريب تمكنت قوات النظام السوري وبدعم من حلفائها “الروس والإيرانيين” من تحقيق عدد من المكاسب العسكرية الكبيرة على الأرض، أهمها فك الحصار عن كلٍ من نبل والزهراء في الريف الشمالي لمدينة حلب, وشكلت هذه الخطوة عاملا ضاغطاً كبيرا على قوات المعارضة في تلك المنطقة التي بدأت تتراجع وتنكمش في مناطقها, إضافة إلى أن النظام السوري بدأ فعليا بحصار مدينة حلب وعزلها عن معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا, أيضا تمكنت قوات النظام فيما بعد من تحقيق تقدمات أخرى في الريف الجنوبي لمدينة حلب واقتربت من الحدود الإدارية لمحافظة إدلب المحررة وبشكل كامل.
تدرك قوات المعارضة السورية أن تهديد مراكز ثقلها المتمثلة في محافظة إدلب هو خط أحمر يجب على النظام السوري ألّا يتعداه مهما كان الثمن, استجمعت قواها وقامت بعملية عسكرية معاكسة في الريف الجنوبي لمدينة حلب وانتهت تلك العملية بتحرير بلدة العيس من قبضة قوات النظام والمليشيات الأجنبية الداعمة, وبعد أشهر قليلة تتبدل الأدور من جديد على الأرض, فيقوم النظام السوري بالسيطرة على كلٍ من منطقتي الملاح وطريق الكاستيلو شمالي مدينة حلب معلنا دخول الأحياء الشرقية من المدينة على قائمة المدن والبلدات المحاصرة في سورية.
لكن النظام لم يتوقع أن تصل قوات المعارضة إلى حد الهجوم عليه في أكثر مناطقه تحصينا؛ في حلب، هي الجهة الجنوبية الغربية، وانتهى الهجوم باقتحام تجمع الكليات وأهمها الكلية المدفعية “كلية الراموسة”, وبالتالي فك الحصار عن مدينة حلب, وبذلك انعكست الآية، وتبدلت الأدوار, فأصبح طريق الكاستيلو هو خط إمداد النظام إلى مناطق سيطرته في حلب بعد أن كان للمعارضة, وأصبح طريق الراموسة هو خط الإمداد للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة في حلب بعد أن احتكره النظام لعدة سنوات.
اللافت للنظر أن جبهات محافظة حلب صعدت إلى الواجهة واستمرت في ذلك لأشهر, بالتزامن مع هدوء نسبي أو تام للجبهات التي كانت مشتعلة بين قوات النظام وقوات المعارضة في العديد من المناطق الأخرى ولا سيما في ريف دمشق ودرعا, الأمر الذي سهّل من مهمة النظام بتعميق خطة العزل والتقسيم والحصار, فتمكن من الاستفراد بمدينة داريا في الغوطة الغربية لدمشق ونجح بالسيطرة عليها بعد أن دخلها وفق اتفاقية انتهت برحيل أهل داريا و”ثوارها” عنها, أما في منطقة جبلي الأكرد والتركمان في الساحل السوري, فيبدو أن عامل الجغرافية والتضاريس يقف إلى جانب قوات النظام التي تمكنت من توسيع دائرة سيطرتها في تلك المناطق, وعادت جبهة الساحل السوري للهدوء من جديد.
أدركت قوات المعارضة جيدا أن القتال في جبهة حلب وحدها قد يكون بمثابة الاستنزاف لمقاتليها على الأرض, وأن التركيز عليها وحدها يصب في مصلحة النظام رغم الخسائر الكبيرة التي يتكبدها فيها في العتاد والأرواح لأن النظام والمليشيات المتحالفة معه ما زالت تقاتل في المناطق البعيدة عن مراكز ثقلها في الساحل ودمشق, لذلك كان لابد من إشعال الجبهات الأقرب من الحاضنة الشعبية للنظام السوري, فكانت جبهات محافظة حماة هي الوجهة الجديدة لقوات المعارضة, نجحت المعارضة في كسب العديد من الإنجازات على الأرض تكللت هذه المكاسب بتحرير مدينة حلفايا من قوات النظام إضافة للسيطرة على العديد من القرى المجاورة.
تلعب قوات المعارضة اليوم على وتر تشتيت تركيز النظام السوري من خلال إشعال عدة جبهات مع بعضها البعض, إضافة إلى أن مدينة حماة السورية التي يسيطر عليها النظام تعتبر بمثابة القاعدة التي تمد النظام بالتعزيزات العسكرية إلى الشمال السوري ومدينة حلب تحديدا, فضلا عن أنها تعتبر البوابة الرئيسة لفك الحصار عن ريف حمص الشمالي وخطوة هامة للتقدم نحو العاصمة السورية دمشق الواقعة تحت سلطة النظام السوري, ولا ننسَ أنها تقع على مفترق طرق يتجه أحدهما غربا إلى منطقة الساحل السوري: المعقل الرئيسي لقوات النظام.
وكما كنا نلاحظ أن خارطة السيطرة تتبدل في حلب “كاستيلو- راموسة” بين النظام والمعارضة, فإن استمرار نجاح قوات المعارضة في كسب العديد من المناطق في ريف حماة سيقلب الطاولة على رأس النظام من جديد؛ لأن استمرار معركة حماة ستكون بمنزلة الاستنزاف المستمر لطاقات وقدرات قوات النظام لقربها من مراكز ثقله, وقد تسهِّل المهمة على الفصائل المقاتلة في الشمال باستغلال عامل الهزيمة والتخبط الذي تعيشه قوات النظام, فتبدأ جولة جديدة من المعارك الحاسمة في مدينة حلب.
طبعا كل ذلك سيكون بعيد عن الرغبة الدولية الساعية إلى التهدئة في سورية ولكن وفق الرغبة الروسية التي تركز على تفوق مصلحة النظام على حساب المعارضة, لذلك قلنا في البداية أنه ثمة انفصام كبير بين مسار الحرب السياسية والحرب العسكرية في سورية؛ لأن الثوار في سورية كثيرا ما نجحوا في إفشال العديد من المؤامرات السياسية التي كانت ترمي إلى فرض مساومات عسكرية على الأرض بعيدا عن رغبة الشعب السوري الثائر في الداخل.
المركز الصحفي السوري – فادي أبو الجود