عقد يليه عقد، بين دول استعادت مجدها من جديد ونفضت عنها غبار الحرب العالمية الثانية لتقتنص نصيبها من الكعكة العالمية، وأخرى أضحت كالجسد المنهك تعيش على فتات القوى العظمى لا تستنشق هواء الانتصارات والمجد إلا من خلال إحياء الاحتفالات التذكارية أو عبر ترتيل الخطابات الرنّانة التي لا تشبع ولا تغني من جوع. وفي المقابل، أصبح الإرهاب مصطلحا مألوفا لكافة شعوب العالم دون استثناء، نراه على شاشات التلفاز ونسمعه على موجات الراديو، كما يستمر في مرافقتنا على صفحات الأخبار مواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن الأمر الذي يثير استفزاز المرء ويجعله شديد اليقين من إسفاف الساسة والمنابر الإعلامية العالمية والعربية أيضا للأسف هو تصوير الإرهابيين دائما بنفس الهيئة. وعادة توجد أدوات بسيطة للغاية تخلق إرهابيا من نوعية ممتازة خلال ثوان. فقد يكون ظهور رجل ملتحي ذو ملامح شيطانية، على شاشة التلفاز، حاملا بين يديه سلاحا غربي الصنع، مختبئا في أحد الجبال وهو يرتل ما تيسّر من القرآن، أمرا كافيا، حتى نثبت عليه التهمة، أو قد تأتي بعض المنابر الأخرى بامرأة ترتدي النقاب تروي تجاربها الجنسية المثيرة ومغامراتها مع الجماعات الإرهابية.
لماذا ارتسمت صورة الإرهاب والإرهابيين في مخيلة العالم بصورة نمطية مادام هذا الوباء قد حلت لعنته على المساجد والكنائس، في الدول المتقدمة والأخرى النامية على حد السواء؟
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن لهؤلاء الإرهابيين ونحن لا نبرؤهم من هذه الصفة أن يزعزعوا الاستقرار العالمي للدول ويثيروا الحروب في ظل وجود أكثر جيوش العالم قوة، إلى جانب أسلحة الذكاء الاصطناعي القادرة على جعل العالم كومة من التراب خلال بضع ساعات.
وعلى العموم، أصبحت صورة الإرهابيين نمطية حتى إنه لم يعد لدينا فضول لنعرف هوية مرتكبي العمليات الإرهابية فهي حتما ستكون من نصيب إحدى الدول العربية الملعونة المصدرة لوباء الإرهاب وأحيانا إحدى الدول الأوروبية أو الأمريكية بعد أن يثبت الإعلام الدولي أنه مريض نفسي عانى ويلات طفولة تعيسة كما اعتدنا أن نسمع. على العموم، لا يخفى على عاقل أن الإرهاب “فزّاعة” مدفوعة الأجر لإرهاب الشعوب، فكم شاهدنا من إرهابي يرتدي حذاء رياضي من ماركات معروفة ويستخدم هاتف من نوع “ابل” ويصور أفظع الجرائم باستخدام كاميرا من نوع “سامسونغ”، لكنه يجهل تماما ما يقوله ويِول الآيات القرآنية بما يخدم مصالح أولياء أمره.
ولسائل أن يسأل وهو استفهام مشروع لماذا ارتسمت صورة الإرهاب والإرهابيين في مخيلة العالم بصورة نمطية مادام هذا الوباء قد حلت لعنته على المساجد والكنائس، في الدول المتقدمة والأخرى النامية على حد السواء؟ لماذا يصر الغرب على ربط مفهوم الإرهاب بالدين الإسلامي خاصة رغم أن الكثير من المجازر التي ارتكبت في حق الإنسانية كانت تعتنق ديانات أخرى، فهل خاض المسلمون مجزرة صبرا وشتيلا مثلا؟ أما أن الوقت حتى نبرأ جميع الأديان وعلى رأسها الإسلامي من عبئ القذارة الإنسانية المحكومة بمصالح سياسية اقتصادية وبعيدة كل البعد عن جوهر الكتب السماوية؟
منذ أيام استوقف انتباهي بث تلفزيوني للرئيس الأمريكي دونالد ترمب ورئيس الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهم يطلون على العالم، في أبهى حللهم يرتدون أفخم البدل ويضعون أرقى أنواع العطور ولكنهم لا يحملون بنادق ولا قنابل يدوية بل بمسكون ملفات أكثر إجراما وإرهابا من السلاح الحي، تحمل بين طياتها بنودا تؤكد للعالم أجمع أن القانون الدولي مجرد حبر على ورق، وفي هذا اللقاء، الذي أثار اهتمام العالم أجمع، قد تحدث الثنائي حول ما أسموه ظلما وبهتانا “صفقة القرن” بمباركة صهر ترمب العزيز. وبطبيعة الحال، لم تتوقف عدسات الكاميرا عن التقاط الصور لهما كأنها نجمين من نجوم هوليود.
في هذه الأثناء، خطر على بالي أمر واحد كاد يصيبني بالجنون ويوقف الدماء في عروقي، وهو هل يوجد إرهاب أقذر وألعن من سرقة تاريخ البلدان في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم. نعم، يحاول “الرئيس” المنتخب الشرعي تزييف تاريخ أرض البرتقال التي دفع غسان كنفاني وغيره من المناضلين دمائهم من أجل كل شبر من ترابها. من تراب فلسطين التي تغنىبها محمود درويش ورسمها بكلمات من ذهب وقال: إنها عشيقته التي يريد الانقضاض عليها ولا يستطيع رغم أنها قريبة جدا منه وما كان بيده إلا أن يسكنها قلبه ويراها بعينه لا بعيون العالم الظالم.
لا أخفيكم سرا، إن مشاهدة هذا المشهد المقيت العبثي جعلني أفكر وأسترجع الكثير من الأحداث التي لم تصنّفها منصات الإعلام العالمي أنها عمليا إرهابية أو أن مرتكبيها رغم مناصبهم المرموقة ليسوا سوى إرهابيين وأستغرب كيف يكيل العالم بمكيالين في تصنيف الأعمال الإرهابية بين إجرامية وأخرى تُضع تحت بند قرارات أو مشاريع.
من سخرية القدر، أن الشعوب العربي أصبحت تعيش على وقع سيناريو أمريكي غربي جديد مع كل رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية، ولا ندري إن كان ذلك مجرد صدفة أم أنه برنامج مدروس
بطبيعة الحال، مرّ العالم بهذا الاعتذار مرور الكرام ولم يعتبره أكثر وقاحة من الغزو نفسه، هل يعيد هذا الاعتذار أرواح أهل دجلة والفرات التي ارتوت الأرض بدمائهم المباركة نتيجة إرهابكم المقنّن، وماذا عن ثروات العراق التي نُهبت واستنزفت وجعلت الشعب العراقيين من أفقر شعوب العرب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم نسمع منصة إعلامية واحدة صنفت هذا التدخل الغاشم بالعمل الإرهابي؟ وماهي مقاييس ومعايير إطلاق صفة الإرهاب على أي حدث كان؟
ماذا لو تحدثنا عن السيناريو الأمريكي الذي حام حول السودان الموحّد حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح بلدا مقسّما إلى دولتين الأولى شمالية والثانية جنوبية، وبعد مرور حوالي عشرة سنوات، فشل السودان المنهك في تحقيق ما حلم به من تقدّم وازدهار بل أصبحت تعاسته وشقائه مضاعفان، فاندلعت حرب نكراء في الجنوب تكاد تكون أكثر دمارا وحدّة من تلك التي اندلعت بين شمال البلاد وجنوبها، وفي هذا السياق، لعل السؤال الذي يطرح نفسه هل التدخل في سياسات الدول الداخلية لا يعد ضربا من الإرهاب؟ ألا يعتبر العمل على تقسيم الدول المستقلة إرهابا؟ اليوم، يدفع الشعب السوداني الأعزل ضريبة هذا التقسيم اللعين من بطالة وفقر مدقع ودمار اقتصادي وقد بان ذلك جليا خلال الحراك الذي قام (الشعب، قام وليس قاموا) منذ سنتين.
من سخرية القدر، أن الشعوب العربي أصبحت تعيش على وقع سيناريو أمريكي غربي جديد مع كل رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية، ولا ندري إن كان ذلك مجرد صدفة أم أنه برنامج مدروس، فعلى سبيل المثال، عانى العالم من تنظيم القاعدة الذي تأسس بالتزامن تقريبا مع تولي جورج بوش الأب رئاسة الولايات المتحدة وانتعش نشاطها مع ولاية بيل كلينتون وجورج بوش الابن بعد مرور فترة من الزمن، وبطبيعة الحال، لم تمر ولاية باراك أوباما مرور الكرام، بل سجلت تأسيس تنظيم الدولة، أكثر الأنظمة الإرهابية وحشية، التي قصفت البيوت وشردت المسلمين واغتصبت الايزديات أمام عدسات الكاميرا. ولا نعرف ما الذي يخبئه القدر لهذه الأمة وهذا العالم في المستقبل؟
في الواقع، إن قائمة الأعمال الإرهابية “المقنّنة والشرعية” التي قامت بها القوى العظمي وعلى رأسها الولايات المتحدة المتغنية دائما وأبدا بمبادئ الديمقراطية منذ أن تأسست على جثث الهنود الحمر، لا يمكن لنا أن نختصرها في مجرد تدوينة بل تحتاج إلى كتاب مفصّل تقرأه الأجيال القادمة علّها تعي كيف يدمّر الإرهاب الورقي بلدانهم وسط صمت عالمي مطبق لا يعترف بالإرهاب إلا إذا كان من صنع عربي أصيل.
الكاتب: شافية محمدي
نقلا عن: مدونات الجزيرة