على امتداد سنوات الحرب، تحولت سوريا من ساحة صراع عسكري إلى مركز عالمي لإنتاج وتهريب المخدرات، وعلى رأسها الكبتاغون. هذا التحول لم يكن عرضياً، بل شكّل أحد أعمدة “اقتصاد الحرب” الذي اعتمد عليه النظام البائد لتمويل آليته العسكرية وتأمين مصادر دخل بديلة في ظل العقوبات الدولية الخانقة. ومع سقوط النظام في كانون الأول 2024، برزت أمام السلطات السورية الجديدة واحدة من أعقد التحديات في هذا المجال وهو تفكيك شبكة اقتصادية أمنية عابرة للحدود، ارتبطت باسم سورية عالمياً كـ “دولة مخدرات” مما انعكس بنتائج كارثية على الاقتصاد والمجتمع السوري معاَ.
المخدرات كاقتصاد بديل: كيف حل الكبتاغون مكان الدولة
اقتصاد المخدرات في سوريا لم يكن مجرد نشاط إجرامي منفصل، بل حل مكان اقتصاد الدولة في مناطق واسعة، موفراً دخلاً وحمايةً للنظام السوري السابق.
بين عامي 2015 و2024، تجاوزت تجارة الكبتاغون مليارات الدولارات سنوياً، لتصبح المصدر الأول للعملة الصعبة داخل البلاد. لم يعد النفط ولا الزراعة ولا الصناعة التقليدية قادرة على توليد إيرادات، فتحولت الحبوب المخدرة إلى “ذهب سوري مسموم”، يموّل الميليشيات ويمد النظام بقدرة على الاستمرار.
انتشرت مصانع سرية على أطراف المدن وفي مناطق حدودية، وحُوِّلت المرافئ والمعابر إلى بوابات لتصدير الحبوب نحو الخليج وأوروبا. هذه الشبكات لم تكن مجرد عصابات، بل مؤسسات ظل، مرتبطة بأجهزة أمنية وقادة عسكريين في نظام الأسد، ما جعلها تتغلغل في الاقتصاد السوري وتؤثر في مسار الحياة اليومية للسوريين.
تجارة المخدرات في سوريا بعد سقوط النظام
بالرغم من سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024 إلا أن سوريا ما تزال تُصنَّف بين أبرز مراكز إنتاج وتصدير الكبتاغون في المنطقة، وذلك بحسب تقرير المخدرات العالمي لعام 2025 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، حيث أن بعض الشحنات الكبيرة مازالت تسجّل أنها تخرج من سوريا باتجاه دول الخليج وأحياناً عبر الأردن وتركيا ويعزو تقرير الأمم المتحدة ذلك إلى: وجود مخزون قديم وشحنات متراكمة من عهد النظام البائد وليس كلها بالضرورة إنتاج جديد، تطور طرق التهريب باستخدام الحدود مع الأردن وتركيا والعراق كمسارات لتصدير الكبتاغون، توسّع محتمل للإنتاج أو انتقال شبكات الإنتاج إلى مواقع جديدة أقل رقابة لتجنب الضربات الأمنية، الطلب الإقليمي على المخدرات السورية لا يزال قوياً، وغياب البيانات الدقيقة في بعض المناطق السورية التي لا تخضع بالكامل لسيطرة الحكومة.
التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة في مكافحة المخدرات
أعلنت الحكومة السورية الجديدة رفضها لتجارة الكبتاغون، وقامت بعدة عمليات ضبط وتدمير مخازن أو شحنات، لكن التقرير العالمي للمخدرات 2025 يشير إلى أن الأمرين: تتبع الشبكات والتأكد من تدمير الإنتاج يتطلبان وقتاً وجهداً كبيراً.
تحاول الحكومة الانتقالية إعادة بناء مؤسسات مالية واقتصادية رسمية بعيداً عن اقتصاد الظل وتجارة المخدرات، لكنها تواجه تحديات الواقع المعقد:
تفكيك شبكات النفوذ حيث أن الكثير من تجار المخدرات ما زالوا يملكون أذرع مالية وشبكات تهريب إقليمية، وبعضهم يسعى لإعادة التموضع داخل النظام الجديد عبر شبكات محلية.
غياب البدائل الاقتصادية مع ارتفاع البطالة وانهيار الزراعة والصناعة، يُبقي خطر عودة “اقتصاد المخدرات” قائماً إذا لم تُطرح حلول تنموية سريعة توفر دخلاً شرعياً للطبقات المهمشة.
يعتبر ملف مكافحة المخدرات في سوريا شرطاً لاستعادة الثقة الدولية، فالمجتمع الدولي يراقب ملف المخدرات السوري باعتباره مؤشراً على جدية الدولة الجديدة، وشرطاً رئيسياً لتدفق الاستثمارات والمساعدات وتدشين مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية.
البعد الاجتماعي والصحي لملف المخدرات السوري
لا يقتصر إرث تجارة الكبتاغون في سوريا على مليارات الدولارات التي غذّت اقتصاد الحرب، بل ترك أثراً عميقاً في المجتمع، خاصة بين الشباب الأكثر هشاشة. فقد تحولت الحبوب المخدرة إلى وسيلة هروب من واقع الانهيار الاقتصادي والحرب الطويلة، ما أدى إلى نشوء طبقة جديدة من المدمنين تعيش على هامش المجتمع وتواجه وصمة اجتماعية مزدوجة: كونهم ضحايا للإدمان ومتهمين في آن واحد.
من الناحية الصحية، يشكّل الإدمان عبئاً ثقيلاً على القطاع الطبي الناشئ في سوريا الجديدة، ويتطلب برامج علاج وتأهيل واسعة النطاق، بينما تفتقر المستشفيات والمراكز الصحية إلى البنية التحتية والكوادر المختصة في الطب النفسي وعلاج الإدمان.
أما البعد النفسي والاجتماعي، فهو الأكثر عمقاً وخطورة، إذ لم يعد تعاطي المخدرات مجرد وسيلة للهروب، بل أصبح جزءاً من آلية التأقلم مع صدمات الحرب، مولداً أعراضاً مضاعفة من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، كما يرتبط تعاطي المخدرات بشكل كبير بالكثير من الاضطرابات العقلية واضطرابات الشخصية، وبارتفاع معدلات الجريمة والعنف الأسري والتفكك الاجتماعي.
في هذا السياق، تتحول قضية مكافحة المخدرات في سوريا من مجرد ملف أمني أو اقتصادي إلى قضية تتعلق بـإعادة بناء الإنسان السوري نفسه، وإعادة دمج الأفراد في المجتمع بعد سنوات من الاستنزاف النفسي والجسدي.
البعد الإقليمي والدولي:
ملف المخدرات لم يعد شأناً داخلياً سورياً، فبالنسبة لجيران سوريا وخصوصاً الأردن والسعودية، لم يكن تدفق الحبوب قضية ثانوية، بل تهديداً مباشراً لأمنهم القومي. العمليات الأمنية الأردنية على الحدود كانت شاهداً على حجم التهديد. واليوم، بات التعاون مع السلطات السورية الجديدة في مكافحة المخدرات شرطاً أساسياً لعودة العلاقات الطبيعية ودخول الاستثمارات الخليجية.
على المستوى الدولي، ربط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أي دعم اقتصادي لسوريا بخطوات جدية لمكافحة شبكات الكبتاغون، وهو ما يجعل الملف ورقة سياسية ودبلوماسية حساسة.
من كولومبيا إلى سوريا: تجارب مكافحة شبكات المخدرات
شهد العالم حالات مشابهة للتجربة السورية عندما تحولت تجارة المخدرات إلى اقتصاد موازٍ يهدد الدولة. فالمكسيك ما تزال حتى اليوم تصارع اقتصاد المخدرات. أما المثال الأبرز في هذا السياق هو كولومبيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، عندما أسس “بابلو إسكوبار” إمبراطورية الكوكائين التي سيطرت على جزء كبير من الاقتصاد والسياسة. “إسكوبار” لم يكن مجرد تاجر مخدرات، بل شخصية صنعت لنفسها صورة دولة داخل الدولة فبنى أحياء للفقراء، دفع رواتب للآلاف، واخترق أجهزة الأمن والقضاء. وبهذا المعنى، أصبح الكارتيل (مافيا مخدرات ضخمة) الكولومبي بديلاً وظيفياً عن الدولة، تماماً كما لعبت شبكات الكبتاغون دور “اقتصاد ظل” في سوريا.
إن تجربة كولومبيا تقدم دروساً مهمة لسوريا، أولها أن المقاربة الأمنية وحدها لم تكفِ، فاغتيال إسكوبار عام 1993 لم ينهِ تجارة الكوكائين، لأن الاقتصاد البديل الذي بناه ظل قائماً. ثانيها أن بناء مؤسسات دولة قوية، مع إصلاحات اقتصادية واجتماعية شاملة، هو الشرط الحقيقي لتفكيك اقتصاد المخدرات. وثالثها أن التعاون الدولي كان حاسماً، فالضغط الأمريكي والإقليمي ساعد كولومبيا في محاربة الكارتيلات، تماماً كما تحتاج سورية اليوم إلى تعاون مع جيرانها وداعميها الدوليين.
من الدروس إلى التطبيق: خطة سوريا لمواجهة إرث الكبتاغون
لا يمكن أن يقتصر التصدي لإرث الكبتاغون على الحلول الأمنية، والمطلوب هو رؤية متكاملة تشمل:
إعادة بناء مؤسسات الدولة المالية والقضائية لضمان المحاسبة والشفافية. توفير بدائل اقتصادية واقعية وسريعة، خاصة في المناطق الحدودية والريفية حيث تتفشى شبكات التهريب. إدماج سوريا في المبادرات الإقليمية والدولية لمكافحة المخدرات. الاستثمار في الصحة والتعليم والتوعية للحد من الطلب الداخلي وتقديم برامج تأهيل للمتعاطين. تطوير سياسات زراعية وصناعية بديلة تخلق فرص عمل، مثل دعم الزراعة التصديرية أو الصناعات الصغيرة، بحيث تصبح أكثر جذباً للشباب من شبكات المخدرات.
في الختام
إن تجارة المخدرات ليست مجرد نشاط غير قانوني، بل مشروع سياسي–اقتصادي كان قادراً على تحدي الدولة نفسها وإضعاف مؤسساتها. لذلك، فإن تفكيك إرث الكبتاغون في سوريا ليس مجرد مهمة أمنية، بل اختبار لقدرة الدولة الجديدة على إعادة تعريف علاقتها بمواطنيها، وبناء اقتصاد شرعي ومستدام يوفر بدائل حقيقية للشباب ويعيد الثقة إلى المجتمع. سوريا اليوم أمام لحظة تأسيسية نادرة، ونجاحها في مواجهة هذا الملف سيكون إعلاناً عن ولادة دولة جديدة، قادرة على حماية حدودها، وإعادة إدماج مواطنيها، واستعادة دورها في المجتمع الدولي بعيداً عن اقتصاد الحرب والفساد.