2-4-2014
ترتبط إسرائيل بالمسألة السورية من ثلاثة أبعاد، هي: الجغرافيا والأمن والاشتباك السياسي. وتمثل هذه العناصر الأبعاد المباشرة لهذا الارتباط، لكنها لا تعبر عن كامل سياقه الإستراتيجي والبنيوي.
معطيات طبيعية وديمغرافية
تجد تداخلات إسرائيل بالمسألة السورية أولى خلفياتها في العامل الجغرافي، على مستوى الأرض والسكان.
هناك خط حدودي طوله 76 كيلومترا، يُمثل أقصر حدود القطر الإقليمية، حيث تمتد حدوده بواقع 822 كيلومترا مع تركيا، تليها تلك القائمة مع العراق بواقع 605 كيلومترات، ولبنان والأردن، بواقع 375 كيلومترا لكل منهما.
وعلى الرغم من ذلك، فإن خط الحدود القصير هذا لا يعبر عن كامل البعد الجغرافي في تفاعل إسرائيل مع المسألة السورية، فهذا البعد يتجسد أساسا في هضبة الجولان المحتلة، التي لم يسترد القطر سوى جزء يسير منها. وكان ذلك بُعيد حرب أكتوبر/تشرين الأول، وفقا لاتفاقية فك الاشتباك.
“من بين أمور عدة، تتبدى إحدى الميزات الإستراتيجية لهضبة الجولان السورية المحتلة في قربها من دمشق، إذ لا تبعد عنها سوى خمسين كيلومترا، كما أنها محاذية لكل من الأردن ولبنان”
وتقدر المساحة الإجمالية لهضبة الجولان بـ1860 كيلومترا مربعا، أي ما يزيد قليلا على واحد في المائة من مساحة القطر الإجمالية. وقد احتلت منها إسرائيل 1158 كيلومترا مربعا خلال حرب يونيو/حزيران 1967. وفي العام 1974 أعادت مناطق تتبع القنيطرة وريفها.
ومن بين أمور عدة، تتبدى إحدى الميزات الإستراتيجية لهضبة الجولان السورية المحتلة في قربها من دمشق، إذ لا تبعد عنها سوى خمسين كيلومترا، كما أنها محاذية لكل من الأردن ولبنان. وتقع على الحدود بينها مع الأخيرة قرية الغجر، التي يحمل سكانها الجنسية السورية، إلا أن جزءا منها كان خاضعا للسيادة اللبنانية، وهي الآن تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
ويمثل جبل الشيخ أعلى نقطة في الجولان المحتل، ومحيطه السوري واللبناني، وهي تحتضن حاليا ما يُمكن اعتباره أكبر مركز استطلاع في الشرق الأوسط، يشرف من خلاله الجيش الإسرائيلي على مساحات واسعة من القطر وجواره اللبناني، بما في ذلك دمشق وبيروت.
ومن منظور الحسابات العسكرية الأكثر دلالة، فإن دمشق أضحت -بعد احتلال الجولان- على مرمى حجر من القوات الإسرائيلية، عبر محور القنيطرة ومحاور حوران.
العامل الآخر في البعد الجغرافي لارتباط إسرائيل بالمسألة السورية هو المكوّن الديمغرافي (أو الجغرافي البشري)، ويُعد هو الآخر مصدر تأثير كبير في الحسابات القائمة.
إن خيارات الناس، واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، قد فرضت نفسها على معادلات الأمس واليوم، على السياسة والأمن والاجتماع البشري. وعلى خلاف الجغرافيا الطبيعية، فإن هذا البعد جاء نقيضا لتطلعات إسرائيل.
قوانين اللعبة في الجولان
اليوم، ثمة متغيّر كبير طرأ على المعادلة الأمنية في الجولان السوري المحتل. هذا المتغيّر تمثل في تمركز عدد متزايد من فصائل المعارضة المسلحة في القنيطرة وريفها، في حين ما زال يوجد في الغرب موقع حربون للدفاع الجوي، التابع للواء 90 في الجيش السوري.
وهذا الموقع يشكل حائلا دون اختراق المنطقة الغربية، وصولا إلى أقصى شمال حدود الجولان، حيث تتمركز القوات الإسرائيلية. كما أن المانع الطبيعي هنا يتمثل أيضا في قريتي عرنة وحضر.
هذا المتغيّر الأمني في الجولان المحتل قد يعمل في أحد اتجاهين:
الأول، زيادة منسوب الاشتباك السوري الإسرائيلي في الجولان، ونقله من حالة الاحتكاك الأهلي العفوي إلى المواجهة المنظمة غير الرسمية.
الثاني، تطويق هذا الاشتباك، وإعادة توجيهه ليكون اشتباكا مع السلطة السورية ذاتها.
وإذا كان الاحتمال الأول يُمثل كابوسا لإسرائيل، فإن الثاني يُعد مكسبا أكيدا لها. وهل هذا يُمثل خيارا أمنيا مجردا؟ بالطبع لا. إنه خيار فكري وأيديولوجي، يدركه الجميع، ولاريب في ذلك.
وفي خضم سيل من التقارير المتضاربة عمّا تفكر به إسرائيل وما تمارسه على الأرض، تناولت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية ما قيل إنه فكرة أولية، أو تصوّر مبدئي، لإقامة شريط حدودي في الجولان المحتل، على النحو الذي كان قائما في جنوب لبنان، بإدارة “جيش لبنان الجنوبي”، الذي تأسس في العام 1976 وتوّسع بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1978.
ذلك الاجتياح الذي عُرف بعملية الليطاني. وقد تعاقب على قيادة هذا الجيش كل من سعد حداد وأنطوان لحد، تحت إشراف أعلى من القوات الإسرائيلية. وفي تطور لاحق، شكل سعد حداد “دولة لبنان الحر”، في 29 أبريل/نيسان 1979.
“تمركز عدد متزايد من فصائل المعارضة المسلحة في القنيطرة وريفها، مثل متغيرا طرأ على المعادلة الأمنية في الجولان، وقد يدفع لزيادة منسوب الاشتباك السوري الإسرائيلي في الجولان”
يشير السيناريو المتداول في جنوب القطر إلى جيب يمتد على طول هضبة الجولان، على أن يتم ربط جميع المناطق العازلة في حزام أمني واحد.
وإذا صدق هذا السيناريو، فسنكون أمام إعادة إنتاج مصغر لتجربة جنوب لبنان، حيث كانت جماعة أنطوان لحد والقوات الإسرائيلية تسيطر على شريط يضم عددا كبيرا من القرى والبلدات.
وعلى الرغم مما قد يكون حالة مصغرة في جنوب القطر، فإن الأمر لا يختلف كثيرا من منظور الحسابات الإستراتيجية.
ومتى أقيم هذا الشريط بالفعل، فإن متغيّرا جديدا يكون قد شق طريقه إلى المعادلة الأمنية، ليس فقط في هضبة الجولان المحتلة، أو الجبهة الجنوبية وحدها، بل في القطر عامة. والأكثر من ذلك في بعض من جواره العربي، وخاصة لبنان.
في حالة كهذه، تكون إسرائيل قد أحدثت تحوّلا تاريخيا في معادلة الاشتباك، تغدو فيه رابحة، إن أحكمت مساره واتجاهاته، وإلا فقد يصبح عبئا إستراتيجيا عليها.
إن مثل هذا الشريط قد يصبح سببا لتغيير قواعد الاشتباك على نحو لا تأمله إسرائيل، وقد يتسبب في صدام بين المكونات السورية المعارضة. وقد يدفع، من جهة ثالثة، قوى عربية وإقليمية لاستخدامه في مهاجمة إسرائيل.
وينطبق هذا بصفة خاصة على فصائل فلسطينية ولبنانية، لا تبدو الظروف الراهنة مواتية للانطلاق من أراضيها، في فعل هجومي لا طابع دفاعيا له.
الاشتباك الأمني والسياسي
ثمة بُعد آخر في علاقة إسرائيل بالمسألة السورية، هو ما يُمكن أن نصطلح عليه بالاشتباك الإقليمي. ونقصد بذلك الأنماط المتقابلة والمتعارضة لتفاعلات الأطراف الإقليمية مع الحدث السوري.
إن إسرائيل قد وجدت نفسها في صدام مضاعف، أو معزز، مع خصومها الإقليميين، الذين وقفوا إلى جانب السلطة السورية ورموا بكامل ثقلهم لدعمها سياسيا وأمنيا.
إن الذي عنى إسرائيل هنا ليس فقط دعم سلطة الرئيس بشار الأسد، بل زيادة التحالف بين هذه السلطة وداعميها الإقليميين. وهذه مسألة لها وزنها الكبير في الحسابات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
هذا المتغيّر رفع من مستوى التداخل الإسرائيلي في المسألة السورية، وقد عبر عن نفسه جزئيا في عمليات القصف الجوي التي طالت ما قيل إنها إمدادات عسكرية متجهة من دمشق إلى لبنان، والتي تطوّرت لاحقا إلى قصف موقع لحزب الله في سهل البقاع اللبناني، في حدث هو الأول من نوعه منذ حرب يوليو/تموز عام 2006، التي لم تنته مفاعيلها بعد.
كان الهدف المعلن من هذا القصف تدمير ما قيل إنه مخزن للسلاح، لكن هذا الهدف الافتراضي هو هدف تكتيكي وحسب. كما ليس من الواضح في الأصل ما هي القيمة الفعلية لتدمير مخزون تمتلك الجهة المستهدفة الكثير منه، أو ما يفوقه أهمية.
إن القضية هنا ترتبط بهدف أكثر دلالة، إنه محاولة إسرائيلية لتغيير قواعد اللعبة التي أرسيت منذ أكثر من عشرين عاما، في الاشتباك اللبناني الإسرائيلي.
على صعيد آخر، وفي سياق الاشتباك ذاته، يُمكن ملاحظة أن ارتفاع حدة الخطاب الإسرائيلي ضد إيران قد وجد إحدى خلفياته في تنامي دعم طهران العسكري للسلطة السورية، فهذا الدعم جعل القوة الإيرانية على مسافة صفر من إسرائيل. وهي مسألة يدرك الإسرائيليون مغزاها في لعبة التوازنات.
وكما الاشتباك الإقليمي في الساحة السورية، لم تكن مخرجات الاشتباك الدولي ذات نتيجة إيجابية بالنسبة لإسرائيل، وكانت فواعله على الأرض ضاغطة عليها، بالمعيارين الأمني والسياسي.
هذا الاشتباك، لم يكن في الأصل متسقا في حركته باتجاه طرفي الصراع، أو لنقل لم يكن متوازنا على هذا الصعيد، فروسيا صاحبة دعم مفتوح للسلطة السورية، في حين أن الغرب كان ولا يزال حذرا في دعمه للقوى المعارضة لها. وهو -خلافا للروس- لا تدفعه حساباته الجيوسياسية للرمي بثقله في الواقع السوري.
“أخذت إسرائيل تتحرك على نحو بدت فيه وكأنها تسعى لتعويض الغياب أو التراخي الغربي في الواقع السوري، ودفعها ذلك -ضمن أمور أخرى- إلى شنِّ ضربات جوية على مواقع عسكرية وصناعية داخل سوريا”
هذا الاختلال في مشهد الاشتباك الدولي، قاد إلى نتيجتين رئيسيتين بالنسبة لإسرائيل: الأولى، أن روسيا، حالها حال إيران، أضحت متعاظمة في حضورها الأمني في سوريا، على نحو بات يتلمس الإسرائيليون عواقبه، لا سيما من ناحية الدعم الاستطلاعي الذي يُقدم لدمشق، والذي تنامى بوتيرة متسارعة خلال الأشهر الماضية، كما تشير العديد من المصادر الدولية.
النتيجة الثانية، إن إسرائيل أخذت تتحرك على نحو بدت فيه وكأنها تسعى لتعويض الغياب أو التراخي الغربي في الواقع السوري. ودفعها ذلك -ضمن أمور أخرى- إلى شن ضربات جوية على مواقع عسكرية وصناعية داخل القطر، خاصة تلك التي حدثت في العام 2013، وهو الأمر الذي لم تكن له أرجحية لدى حليفتها واشنطن، رغم ما أبدته من عبارات “التفهم”، فقد أدركت منذ البدء أن كرة النار قد تتدحرج.
وفي المحصلة، حدث تباين إسرائيلي أميركي حول سوريا، ليضاف إلى الخلاف القائم حول الملف النووي الإيراني. وهنا، أكلت إسرائيل المزيد من رأسمالها السياسي.
وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن المشهد السوري الجديد ظهر لإسرائيل بداية وكأنه فرصة يجب انتهازها، لكنه انتهى إلى كونه تحديا إستراتيجيا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الاستنتاج لا يجب وضعه في إطار تبسيطي، فهناك منظومة من العوامل الموجهة لسلوك الفرقاء المختلفين، وهي منظومة دينامية بطبعها، متغيّرة بتغيّر الحسابات والقراءات.
ونحن من جهتنا معنيون، في الأحوال كافة، بمقاربة قضايانا الوطنية مقاربة ناجزة، لا ينفصل فيها الإجراء التكتيكي عن الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى.
المصدر : الجزيرة