إدلب هي المدينة الطاعنة في الهدوء والألفة، المدينة التي تشكل النافذة الشمالية لسورية، وبوابة الاتصال العربي مع أوروبا. المدينة تجعلك تشعر بأنك قريب من أجمل المدن، فهي تبعد حوالى 60 كيلومتراً عن مدينة حلب، و132 كيلومتراً عن اللاذقية، و320 كيلومتراً عن دمشق، وهي مدينة جميلة ومنظمة ومساحتها المتوسطة تجعلك تتعرف عليها كلها في فترة قصيرة. تحتل إدلب المرتبة الثامنة من حيث المساحة بين المحافظات السورية، لكنها من أكثر المناطق خضرة ووفرة. يبلغ عدد سكان إدلب 165 ألف نسمة. يفرش سكان المدينة لك قلوبهم قبل البيوت، ويقدمون لك طيبتهم قبل أن يقدموا لك طعامهم الأطيب، سواء كانوا من الغالبية العرب، أو من الأقليات الكردية أو التركية، سيستقبلونك متى دخلت بيوتهم.
تحتار إدلب حين تحاول أن تخبرك عن سبب تسميتها، لكنها ستقول لك، برغم اختلاف التفسيرات لدى الباحثين، بأنها مدينة التاريخ والخصب. فإن كان اسمها قادماً من الآرامية، من كلمة “أدد”، وهو إله العاصفة والرعد، ويعني قلب الشيء، فهي ستكون مركز آلهة المطر، أو أنها ستكون قادمة من “أد” وتعني هواء القلب. يؤكد بعض الباحثين أن الاسم قادم من مملكة “إيبلا”. ويشير آخرون إلى أنه يعود إلى كلمة “ادلبو” الكنعانية التي تعني مكان جمع الزراعات والمحاصيل، وقد تكون قادمة من كلمة “دلبات” الغلطية القديمة التي تعني إله الزراعة، أو من الكلدانية من كلمة “وادي لب”.
كل التسميات ستجعلك تكتشف مدى عمق جذور إدلب في أرض الحضارة الإنسانية، وستجعلك تدخل التاريخ، وتسأل باحثيه وكتبه، ليقولوا لك ادخل إلى متحف إدلب وستعرفها. ستستقبلك الأدوات التي اكتشفت في أكثر من 800 موقع أثري في إدلب المحافظة. ولعل أهمها هو تل المسطومة وداحس، التي عثر فيها على سكاكين تعود للعصر الحجري، أي لستة آلاف سنة قبل الميلاد. ثم ستصل إلى مكان خاص لكل القطع الأثرية التي تعود لمملكة “إيبلا” العريقة، والتي وجدت منذ حوالى أربعة آلاف عام. عاشت “إيبلا” فترة طويلة من الازدهار المعرفي والفني والقانوني، إذ عثر من قبل البعثات الأجنبية للتنقيب على مجموعة كبيرة من الرقم المسمارية الفخارية، وفيها الكثير من النصوص السياسية والأدبية. وكان أهم القطع الأثرية، الرقم الذي يحوي على أقدم معاهدة سياسية، جرت بين مملكة “إيبلا” العريقة ومملكة “أبرسال”، والتي تدل على قوة هذه المملكة، وعلى نفوذها عام 2600 ق.م. ستجد أكثر من عشرين خزانة خشبية تحتوي على أدوات ومجوهرات، وعلى كتابات تخبرك أيضاً عن المرحلة الرومانية والبيزنطية التي مرت بها هذه الأرض الغنية بالحياة، وكيف كانت المدينة منقسمة لمحلتين، إدلب الكبرى وإدلب الصغرى، وكذلك المرحلة الإسلامية للمدينة، بما فيها المرحلة الأموية والعباسية ثم العثمانية. وستقول لك عن الصدر الأعظم، محمد باشا الكولي، الذي اهتم بالمدينة وبتنظيمها، والذي بنى فيها الحمامات الأثرية والبيوت العربية المميزة. لكنها أيضاً ستخبرك كيف أخذ العثمانيون شبانها كلهم إلى “السفر برلك”، وكيف قاومتهم وعادت وقاومت الفرنسيين بثورة ابنها الوفي، إبراهيم هنانو، وكيف قصفها الفرنسيون وقتلوا سكانها. وكيف أنها مثل كل المدن القادمة من أول خطوط التاريخ، مهما قصفها الطغاة، ومهما قتلوا من شبابها، ستنتصر وستعود قوية، فلا بد لبحر الزيتون الأخضر فيها من أن يغرق كل أعداء الحرية، وكل الأعلام السوداء. ستبقى إدلب المدينة التي تدخل روحك بدون جواز سفر، وحين تغادرها، يكون الزيتون قد امتد في روحك بساتين على طول مرأى العين. بساتين ستجعل السلام يسقط عليك كوحي، وستجعلك تعود إلى نفسك سالماً، ويكون رمانها الشهي قد بدأ يجري في دمك، ليصبح دمك أنقى، ولتتعلم منه لغة الجمال والحب. إدلب هي المدينة التي تتحول فيها، دون أن تشعر، إلى سوري قادم من ستة آلاف سنة قبل الميلاد، لتعيش تفاصيل الحياة في العصر الحجري، ولتجد نفسك أيضاً قد تحولت إلى أحد ملوك مملكة “إيبلا”، وعشت مجدها كاملاً.
العربي الجديد