وبسبب محدودية الهجوم، أثيرت أسئلة كثيرة بشأن جدية تهديدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للأسد بدفع “ثمن باهظ”، وعن وجود خلافات تعصف بإدارة ترامب حول سياستها في سورية. وقد شملت الخلافات داخل إدارة ترامب طبيعة الرد العسكري الأميركي ومداه. بل إنه لا يوجد توافق داخل الإدارة حول إن كان نظام الأسد قد استخدم غاز الأعصاب (السارين) في دوما، أم إنه “اكتفى” باستخدام غاز الكلور، وهو الأمر الذي تسامحت معه الولايات المتحدة في سورية، مثلما تسامحت مع غيره من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام في حق شعبه.
طبيعة الهجوم
عندما أُبلغ ترامب عن هجوم دوما لجأ إلى “تويتر”، وسيلته المفضلة في التعبير عن مواقفه، مغرّدًا بلغة حادة عن الأسد وداعميه الروس والإيرانيين، متعهدًا بجعل نظامه يدفع “ثمنًا باهظًا” لاستخدامه أسلحة كيماوية. ولم تتمحور النقاشات داخل الإدارة الأميركية حول مبدأ وجوب توجيه ضربة “عقابية” إلى النظام، وإنما ركّزت على مدى الضربة وقوتها. واستنادًا إلى مسؤولين في إدارة ترامب، فإنه كان يريد حملة متواصلة وأشد قوة على النظام السوري،
في مقابل تحفظ وزير الدفاع، جيمس ماتيس، وجنرالات الجيش الأميركي الذين أصروا على ضرورة وجود إستراتيجية أوسع لسورية، وحذّروا من خروج الأمور عن السيطرة، بما في ذلك احتمال حصول صدام أميركي – روسي. غير أن الصفة الفوضوية لرئاسة ترامب تحكمت في تفاصيل النقاشات الأميركية ووجهتها، خصوصًا أنها جاءت في أجواء الإثارة بشأن اقتحام عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) مكتب محاميه الخاص ومنزله، بحثًا عن وثائق قد تدين ترامب في قضايا قانونية. وقد أدى أسلوب ترامب الفوضوي إلى ارتباكٍ في مداولات مجلس الأمن القومي الأميركي لتحديد طبيعة العملية العسكرية ضد النظام السوري ومداها؛ فقد فاجأ مستشاريه، في 11 نيسان/ أبريل 2018، بتغريدةٍ ردّ فيها على تحذير روسي بإسقاط أي صواريخ أميركية تطلق على سورية واستهداف مواقع إطلاقها. وكتب ترامب في تغريدته: “روسيا تتعهد بإسقاط أي صاروخ يطلق على سورية. استعدي يا روسيا لأن الصواريخ قادمة.. لطيفة وجديدة وذكية”.. وأثارت تلك التغريدة تلك انتقادات واسعة؛ ذلك أنه دائمًا ينتقد إدارة سلفه، باراك أوباما، لإعلانها تفاصيل مخططاتها العسكرية؛ وهو الأمر الذي اضطر الرئيس الأميركي إلى التغريد مرة أخرى في اليوم التالي، نافيًا أن يكون حدد وقت الهجوم، وقال: “يمكن أن يكون (الهجوم) قريبًا جدًّا، ومن الممكن أن لا يكون قريبًا جدًّا”.
كان هدف ترامب هو القيام برد أقوى من الهجوم على مطار الشعيرات، غير أن الأمر انتهى إلى ما وصفها ماتيس “ضربة يتيمة” لإيصال رسالة قوية إلى الأسد، كي لا يستخدم أسلحة كيماوية مجددًا. وهذا يعني عمليًّا أن هدف العملية العسكرية أخيرا لم يختلف عن هدف عملية الشعيرات عام 2017 التي فشلت في إقناع الأسد بوقف استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه. وفي محاولة لامتصاص استياء ترامب من محدودية الضربة والخيارات العسكرية التي قدمت له، ضاعف البنتاغون حجم هذه الضربة مرتين مقارنة بضربة عام 2017؛ إذ أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا 105 صواريخ بدلًا من 59 في عام 2017، كما استهدفت هذه المرة ثلاثة مواقع للنظام مقابل موقع واحد في 2017. وأعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن الضربات اقتصرت على تقويض القدرات الكيماوية للنظام السوري، ولم تهدف إلى إطاحة الأسد أو تعديل موازين القوى على الأرض. ومع أن ترامب وصف العملية بالناجحة، وغرّد أن “المهمة أنجزت”، مع أن حجم الضربة كان أقل كثيرًا مما أراده، فإن البنتاغون أقرّ بأن عناصر البرنامج الكيميائي لا تزال قائمة في سورية، وبأنه لا يمكن ضمان عدم قدرة سورية على تنفيذ هجوم كيميائي في المستقبل، على الرغم من استهداف “قلب برنامج الأسلحة الكيميائية السوري”.
“الخط الأحمر” لإدارة ترامب
على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تجزم بعد أن النظام السوري استخدم غاز السارين في
الهجوم على دوما في نيسان/ أبريل 2018، فإنها مضت في قرار الهجوم. واستخدام غاز السارين هو “الخط الأحمر” الذي كانت إدارة أوباما وضعته عام 2012 للنظام السوري، وكان ترامب قد التزمه في هجومه على مطار الشعيرات عام 2017. وكان من المفترض، وفق اتفاق عام 2013 بين الولايات المتحدة والنظام السوري، بوساطة روسية، أن تسلّم سورية كل مخزوناتها من السلاح الكيميائي؛ ما جنب النظام حينها ضربة عسكرية أميركية. ويبدو من الواضح اليوم أن النظام السوري لم يلتزم كليًّا ذلك الاتفاق. ويؤكد المسؤولون الأميركيون استخدام غاز الكلور في هجوم دوما، في حين يشيرون إلى أن الأدلة على استخدام غاز السارين غير قاطعة إلى الآن، بحسب ما أكد نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، ووزير الدفاع ماتيس ويعتقد مسؤولون آخرون أن عينات بيولوجية من منطقة الهجوم في دوما تفيد بأن الغاز المستخدم كان خليطا من غازَي الكلور والسارين..
أثارت المعطيات السابقة تساؤلات حول وضع إدارة ترامب “خطّا أحمرَ” جديدًا معيارًا يستدعي تجاوزه تدخلًا عسكريًا أميركيًا. وكانت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، ألمحت، ساعات بعد الهجوم الغربي العسكري على النظام السوري، إلى أن الولايات المتحدة ستضرب من جديد، إن استخدم “الغاز السام” مرة أخرى، قائلة: “إذا استخدم النظام السوري هذا الغاز السام مرة أخرى فالولايات المتحدة جاهزة للضرب”، وأخبرت مجلس الأمن بأنه “عندما يرسم رئيسنا خطًا أحمر فرئيسنا يطبق ما يعنيه الخط الأحمر”. وإذا كان غاز الكلور مشمولًا في الخط الأحمر لإدارة ترامب، فإن هذا سيكون معيارًا جديدًا صعب التطبيق في إطار السياسة الحالية؛ ذلك أن النظام السوري استخدمه عشرات المرات من قبل ولم يُواجه برد أميركي، كما أنه غير مشمول في اتفاق تخلي سورية عن أسلحتها الكيماوية عام 2013. وكان قد سُمح لسورية بالاحتفاظ به حينها لاستخدامه في أغراض مدنية، فيما حُظر استخدامه لأغراض عسكرية. ولم يلتزم النظام ذلك يومًا.
إستراتيجية غائبة
إعادة تركيز الاهتمام على حقيقة غياب إستراتيجية أميركية في سورية قد تكون إحدى أهم النتائج التي ترتبت على الهجوم العسكري المحدود على النظام السوري. فقبل نحو عشرة أيام من الهجوم، كان ترامب قد أكد أن القوات الأميركية في سورية ستعود إلى “الوطن … قريبًا جدًّا”. وعلى الرغم من أن مستشاريه للأمن القومي وجنرالات الجيش الأميركي حاولوا إقناعه بضرورة الإبقاء على تلك القوات في سورية، فإنه وإن كان قد تراجع عن قرار سحبها مباشرة، فقد بقي مصرًّا على ضرورة وجود جدول زمني سريع لسحبها؛ وقد أكدت معلومات أنه حدد ذلك بستة أشهر. وبعد الهجوم الكيميائي في دوما، اختلف ترامب مع المؤسسة العسكرية الأميركية مرة أخرى، لكنه اتخذ موقفًا نقيضًا لموقفه السابق؛ فقد ضغط للقيام برد قوي
ومتواصل ضد النظام السوري، وهو ما حذره منه القادة العسكريون؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى صدام مع روسيا وإيران على الأرض السورية..ولا تتوقف تناقضات ترامب عند ذلك الحد، ففي دلالة على غياب استراتيجية أميركية واضحة لسورية، ومع إعلانه عن الضربات الصاروخية على النظام السوري، أكد ترامب رغبته في خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط “المضطرب” في مرحلةٍ ما، على اعتبار أن “مصير المنطقة هو في أيدي شعوبها”. وأكد ترامب أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى البقاء في سورية لأجل غير مسمى بأي حال”، وأن على أطراف أخرى أن تقوم بهذا الدور هناك..
وبحسب مسؤولين في إدارة ترامب، فإن للولايات المتحدة هدفين في سورية اليوم: ضمان هزيمة “داعش” كليًّا ومنعه من السيطرة مجددًا على المناطق التي طرد منها، ومنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية.. وقد أدرك الأسد أن الولايات المتحدة لا تملك بديلًا منه، ولا تملك، كذلك، تصورًا لحال سورية بعده، خصوصًا بعد أن تخلت إدارة ترامب كليًّا عن دعم أي تيار من المعارضة السورية المسلحة التي تقاتل النظام؛ ولذلك أجرى نظام الأسد صباح ليلة الضربة احتفالات، أطلق عليها اسم احتفالات “صباح الصمود”..
خلاصة
لم يكن الهجوم الصاروخي الذي توعد به ترامب أكثر من لفتة نظر فارغة لنظام الأسد. وبغض النظر عما إن كان ترامب وضع خطًا أحمر جديدًا يشمل استخدام الكلور، فإن الأمر الوحيد المؤكد أن الولايات المتحدة لا تعتبر قتل السوريين بالأسلحة التقليدية، بما في ذلك البراميل المتفجرة، سببًا يستدعي تدخلها. وحتى حديث ترامب عن رغبته في أن تضاعف دول أخرى، كالسعودية والإمارات وقطر ومصر، من دورها في سورية، حتى يتمكن من إخراج القوات الأميركية من هناك، يُعتبر أمرًا غير منطقي. فمواقف هذه الدول متفاوتة؛ فمنها ما يدعم نظام الأسد (النظام المصري)، ومنها ما قد يدخل في صراع مع تركيا (الإمارات والسعودية)؛ إضافة إلى أن وجود روسيا في سورية اليوم يجعل من المستحيل على أي لاعب آخر موازاة نفوذها، في غياب أي نفوذ أميركي.