ليس الحل السياسي في سورية كلامياً. لو كان كذلك، لما استمر الصراع أكثر من أيام أو أسابيع. ولن يحل السلام، ويتوقف العنف ويتغير النظام، لأن المعارضة تقبل وثيقة جنيف واحد، وتعلن استعدادها الدائم للتفاوض مع روسيا في أي جنيف قادم، وللمشاركة مع أطرافٍ من أهل النظام في “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، وترحب بعقد مؤتمر وطني يضم كل السوريين، ينقل البلاد إلى النظام الديمقراطي العتيد، ويطرد الأسد وحلقة المجرمين المحيطة به من السلطة … إلخ. هناك على مستوى الكلام حل من أروع الحلول التي يمكنها تحريرنا من صراع مكلف وعنيف: إنه وثيقة جنيف واحد التي صاغها، وبالتالي وافق عليها، الخمسة الكبار قبل حوالى عامين، وأعلنوا تصميمهم على تنفيذها في أقرب وقت، قبل أن يلتقي للتفاوض حول تطبيقها وفدان سوريان، حاكم ومعارض، بحضور الخمسة الكبار، عقب حفلة خطاباتٍ، حضرها ممثلو 40 دولة شهدتها مدينة مونترو السويسرية. لكن وثيقة جنيف لم تنفذ، وبنودها لم تطبّق، لاختلاف الخمسة الكبار على معانيها، والنقطة التي يجب بدء الحل منها، والمآل الذي ستصل إليه، واختلاف أهل النظام مع المعارضة على كل كبيرة وصغيرة، وشكّ وفد النظام في سورية في المعارضين، وإعلانه أنهم إرهابيون يجب بدء الحل بإطلاق نيران مسدس بشار الجعفري عليهم داخل قاعة المفاوضات!
أعتقد أن تطبيق وثيقة جنيف واحد الذي تطالب المعارضة به كان سبب تعطيل الحل، فقد وافقت روسيا على الوثيقة، وعارضت تطبيقها، لعلمها أنه سيطيح نظاماً تؤيد انتصاره العسكري على المعارضة. أما أميركا فلم تقتنع بضرورة تطبيق جنيف واحد، لاعتقادها أن الصراع يجب أن يتواصل في سورية، إلى أن يحقّق أهدافها المغايرة لأهداف السوريين، والمنصبّة تحديداً على تصفية حساباتها مع روسيا وطهران، وعلى ليّ ذراع ملاليها، وإرغامهم على إيقاف برنامجهم النووي والصاروخي، وتغيير سياستهم في المنطقة العربية، وصولاً إلى احتوائهم في نظام جديد تشرف عليه هي وإسرائيل. أخيراً، لم تعترف إيران بوثيقة جنيف، فكيف تسهل تنفيذ بنودها التي ترى في تطبيقها هلاك الأسد ونظامه، وهلاكها هي بعد خروجها من سورية؟
لا تكفي الوثائق والنيات الطيبة لتحقيق السلام، أو لإنجاز حلول سياسية لصراعات معقدة، كالصراع الدائر في بلادنا، وتبعده تعقيداته اليومية عن الحل بدل أن تقربّه منه. ربما كانت الحلول الكلامية التي دأب المعارضون على تكرار ولوك مراحلها ونتائجها الفخ الذي سقطوا فيه، وحال بينهم وبين رؤية ما يتوقف الحل عليه: بناء وضعهم الذاتي بطرقٍ تمكّنهم من وضع العالم أمام أحد خيارين: تطبيق وثيقة جنيف تفاوضياً، أو قيام الثورة بتطبيقها بالقوة. في غياب القوة الذاتية، لم يبق للمعارضة غير إصدار إعلاناتٍ كلامية منمقة، تنصب على مراحل وأهداف ومواصفات حلٍّ ليس متاحاً لها، يبتعد عنها بقدر ما يتعاظم افتقارها إلى القوة، ويزداد تعلقها به، وإصرارها عليه، بقدر ما يتزايد عجزها عن بلوغه، بينما يبقى ما تطالب به عصيّاً على التطبيق، بسبب موازين القوى على أرض الصراع المحلي، وفي أبعاده العربية والإقليمية والدولية.
يرتبط الحل السياسي بما هو أكثر بكثير من تعداد مراحله ووصف مفرداته. وهو مستحيل من دون بناء قوة ذاتية ضاربة، تمكّنها قدراتها من ممارسة سياساتٍ، وتبني خياراتٍ تُفضي إلى نتيجة واحدة: فرض الحل بردع القوة أو بقوة الردع. بغير ذلك، سيحلم الواهمون أن بياناتهم ستجلب الحل الذي سيأتي بمجرد إعلان نياتهم الطيبة، التي ستجعلهم في غنىً عن تغيير أوضاعهم، وهذه يعرفون أنها شديدة الهشاشة، لكنهم يتمسكون بها، خشية أن تنهار تماماً. يخال هؤلاء المساكين أنهم ما إن يطلقوا تعويذاتهم وتعزيماتهم السلمية، ويقبلوا مرحلة الانتقال، حتى يسارع العالم، بما فيه روسيا وبعد شيء من التردد إيران، إلى الترحيب برغبتهم في الحل، وإيصالهم إلى السلطة، لا لشيءٍ إلا لأنهم ديمقراطيون ومسالمون، ومحبون للقانون والعدالة والمساواة، و… بلهاء وسذّج!
ميشيل كيلو – العربي الجديد