بشّر رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، بأن أنباء “جميلة” عن سورية سوف ترد في القريب. وجاء هذا التصريح بعد عودة الرئيس، رجب طيب أردوغان، من اجتماعاته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في بطرسبرغ، ومع توارد أنباء عن توجه رئيس الاستخبارات التركية، حقّان فيدان، إلى موسكو، لاستكمال المباحثات مع الروس في جانبها الأمني. وتتسم تصريحات يلدريم بخصوص الوضع الإقليمي بطابع التفاؤل المفرط (ربما للتدليل على أن عهد حكومته سوف يتسم بصفر مشاكل، وهو الشعار الذي رفعه رئيس الحكومة السابق، أحمد داود أوغلو، من دون أن يتيسر له تطبيقه، وها قد جاء البديل يلدريم ليضعه موضع التنفيذ).
لم يرشح عن قمة أردوغان وبوتين أي شيء بخصوص الوضع السوري، غير أن ما تلاها بات يوحي بأن الطرفين في سبيلهما إلى تضييق الخلافات. في هذه الأثناء، كانت القوات الروسية تواصل دعمها حكومة دمشق، وتقصف منشآت مدنية، آخرها حتى كتابة هذه السطور، كنيسة في إدلب، فيما كانت “الحكومة الشرعية ” في دمشق تستخدم الغازات السامة ضد المدنيين في أحياء حلب الشرقية، وفيما كان وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، يقلد في حلب أوسمةً لأفراد مليشياتٍ، مكافأة لها على تشديد الخناق على الأحياء المحاصرة.
تثير هذه التطورات المتسارعة تساؤلات، كما تثير الفضول، حول ما يجري ترتيبه. التساؤل الأبرز: هل ستستعيض موسكو عن الجهد الثنائي مع واشنطن، بإقامة ترتيبات ثنائية مع أنقرة؟ لا شيء ينفي ذلك، فواشنطن تنوء بعبء الملف السوري، من دون أن تبذل جهداً يذكر لوقف المجازر في هذا البلد، وبعد أن اختزلت الوضع المعقد هناك وتصويره على أنه يقتصر على خطورة تنظيم داعش، مع إغماض العينين عن بقية جوانب المشهد، وبالذات الوجود الإيراني ووجود المليشيات الدائرة في فلك إيران.. وفي وقتٍ تتوتر فيه العلاقات التركية الأميركية، ويبدو مصير قاعدة إنجيرليك غامضاً مع اتهاماتٍ لجنرالات في القاعدة بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة. والراجح أن واشنطن سوف تركز زاوية النظر على انعكاسات التفاهمات التركية الروسية على الحرب ضد داعش، علماً بأن موسكو لم تمنح الحرب على داعش أية أولوية مقارنة بجهودها “الطيبة” المثابرة والمحمومة في استهداف المدنيين والمنشآت المدنية.
وفي أجواء اهتزاز الثقة بين واشنطن وأنقرة، ونزوع موسكو إلى الانفراد بإدارة الملف، بما في ذلك المشاركة المباشرة في الحرب ضد المعارضة وضد المدنيين، فإن على واشنطن أن تجني ثمار سياستها المشلولة، واستتباعها لموسكو، وابتعادها عن شركائها في مجموعة أصدقاء سورية، وتلك ربما خاتمة طبيعية مع انقضاء ولاية الرئيس، باراك أوباما، الذي يستحق أن يوصف بأنه كبير المتفرجين على المأساة السورية، فقد تم استدراج واشنطن إلى الصمت على المشاركة الروسية في الحرب، ولتزكية موسكو بأنها اللاعب الأول وصاحبة القرار، على الرغم من أن الأمر تم من وراء ظهر المجتمع الدولي ودول الإقليم، وبالضد من إرادة الشعب السوري. وبينما لم تتوقف موسكو عن استهداف المدنيين بصورة وحشية، فإن قصفها الإعلامي والدبلوماسي ضد الإرهاب لم يتوقف ساعة، وقد أثبتت إدارة أوباما أن صبرها بلا حدود، وأنه ليس لديها ما تفعله سوى مراقبة الوضع عن كثب (!).
تثير التطورات التركية الروسية التساؤل بشأن الدور الإيراني، وحيث التزمت طهران الصمت حيال قمة بوتين أردوغان. تخوض إيران الحرب في سورية، عبر الحرس الثوري ومليشيات حزب الله والحشد الشيعي ومليشيات الأفغان والباكستانيين الذين يساقون إلى الحرب عنوة. ترفض طهران كل مرجعية دولية، وتعتبر كل المعارضين السوريين إرهابيين، وتتمسك بخياراتٍ قصوى، تتمثل في سحق المعارضة السورية، وجلب كل السوريين إلى بيت الطاعة. وبينما تلتقي طهران مع موسكو، في عقيدةٍ عسكريةٍ واحدةٍ، هي التطهير العرقي والديني، وإلى إشعار آخر، فإن موسكو ترغب في اجتذاب أطراف مؤيدة لسياستها، وتقبل لفظياً بالمرجعية الدولية للتسوية السورية، وتدفع إلى أن يُجدّد النظام في دمشق نفسه بنفسه إلى التكيف مع مقتضيات التسوية، فيما ترى طهران أن لا شيء في دمشق يستحق التغيير والمراجعة، وأن الحكم هناك لا يأتيه الباطل في كل ما يرتئيه وينفذه، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعليه، من المتوقع أن تسعى موسكو إلى تشجيع اتصالات تركية إيرانية من أجل كسر الستاتيك القائم، وإعادة اكتشاف المصالح المشتركة، ومنها الحرب على الحركة الكردية، وتنشيط المبادلات التجارية بأعلى أرقام ممكنة، غير أن أية اتصالات تركية إيرانية ستكون مرهونةً باتضاح أفق التفاهم الروسي التركي حول سورية. وبخبرة التجارب السابقة، لن تكون طهران مستعدةً للتراجع خطوة واحدة سوى مقابل تراجع أنقرة خطوتين إلى الوراء.
الخشية في هذه الظروف أن تقود النزعة التصالحية المفرطة لدى أنقرة، ورهاب الانقلاب، إلى خطواتٍ متسرعةٍ تزيد في تعقيد الوضع السوري، تماما كما أن التدخل الروسي زاد الوضع تعقيداً، وضاعف من المحنة التي يتجرّعها ملايين السوريين.
وإلى إيران وأميركا، هناك بقية الأطراف ذات العلاقة بالملف السوري، ومنها على الخصوص أطرافٌ خليجيةٌ ترتبط بتفاهات استراتيجية مع أنقرة. وليس معلوماً ما إذا كانت أنقرة قد وضعت هذه الأطراف، وفي وقتٍ مناسب، في صورة التطورات الجارية، وما إذا كانت قد نسقت معها لعبور مرحلة جديدة، أم أن الأمر يقتصر فقط على “مبادرة” تركية قد تضع الأصدقاء أمام الأمر الواقع، مع ما لذلك من تداعيات.
ومن هذه الأطراف المعنية أيضاً مجموعة أصدقاء سورية، من فرنسا إلى بريطانيا، إلى الأردن ودول أخرى، علماً بأن التواصل التركي مع هذه الدول ضعيف، وقد زادت التطورات التركية الداخلية في تباعد المواقف. كيف مثلاً لبلدٍ، مثل الأردن، أن يقبل بأي حل للأزمة السورية لا يضمن عودة أكثر من مليون لاجئ سوري يقيمون على أراضيه، ويشكلون ضغطاً على ميزانيته التي تنوء بالأعباء؟.
لا يجانب الصوابَ مسؤولون غربيون لدى قولهم إن مفتاح الحل يكمن في “جيب” شخص واحد، هو الرئيس فلاديمير بوتين، نظرا للتأثير الكاسح الذي يمتلكه على نظام البراميل المتفجرة في دمشق، غير أن أي حلٍ لن يقيض له النجاح، ما لم يستند إلى المرجعية الدولية وأحكام القانون الدولي، وإلى تطلعات السوريين نحو نظام تعدّدي ديمقراطي، تحكمه سيادة القانون، لا سلطة الغاب، فالسوريون كانوا وسيبقون الرقم الأصعب والأقوى في المعادلة، والذي يستحيل تجاوزه.
العربي الجديد – محمود الريماوي