العربي الجديد – سلام الكواكبي
لقد تعاظمت الاتهامات بفشل المشروع الأوروبي في مواجهة الوباء، وابتعاد الأعضاء عن
التضامن المنتظر من مؤسسةٍ كان في عماد تشكيلها تجاوز الحرب العالمية الثانية وجروحها. وبدا جليّاً في بدايات الأزمة التخبّط السيادي بين ألمانيا وفرنسا من جهة، وإيطاليا من جهة أخرى، خصوصاً في التصريحات. وقد تم تأجيج حالة الشك والتنديد المبطّن من دعايةٍ روسيةٍ نشيطة وفاعلة. كما تم ترويج هذه “الأزمة” الداخلية للاتحاد الأوروبي، عبر الحلفاء الموضوعيين أو الأدواتيين، للطموح الروسي، في تفكيك الاتحاد من الشعبويين المتطرّفين المحليين في أوروبا يميناً ويساراً. ولم يبخل، على سبيل المثال، الإيطالي ماثيو سالفيني أو الفرنسية مارين لوبين في ترويج الأكاذيب والتنديد بالمشروع الأوروبي، بالاستناد إلى تعزيز مفهوم السيادة الوطنية لإدارة الكوارث، واعتبار انتشار الوباء مرتبطاً بإزالة الحدود وبتوافد الأجانب واللاجئين.
يغيب عن معرفة كثيرين متبحّرين في “علوم” المؤامرات والتخمينات الفيسبوكية، أنه لا إدارة صحية أوروبية مؤسساتية، فقد اختار المؤسسون أن يبقى ملف الصحة وطنياً بعيداً عن بروكسل. وبالتالي، لا يوجد في المؤسسة الأوروبية مفوض(ة) للصحة ولوازمها. ومن المنطقي إذاً أن ينجم عن ذلك غياب سياسة أوروبية صحية موحّدة. في المقابل، على الرغم من التأخير، وربما التقصير النسبي، إلا أن باقي المؤسسات الأوروبية تعاملت بما تقتضيه الضرورة مع الأزمة، فاقتصادياً، تحرّك مصرف الاستثمار الأوروبي، كما المؤسسات المالية المختلفة، بالسرعة المعقولة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد المشترك، والذي سيوضح حجم الخسائر الهائلة فيه، بعد انزياح الوباء جزئياً على الأقل. وكذا على المستوى السياسي، بحيث تنبّهت المؤسسة الأوروبية إلى تجاوزات تسلطية لبعض دول الشرق والوسط الأوروبي، كما المجر وبولونيا، في ما يتعلق بالحرّيات العامة وبأسس دولة القانون، بحجّة التعامل الفعال مع الوباء ومساراته. جُلّ منتقدي غياب الاتحاد الأوروبي عن إدارة الأزمة هم الذين رفضوا باستمرار تدخل مؤسسات الاتحاد في فرض قواعد ومعايير صارمة، لتلتزم بها مجمل الدول الأعضاء، وهم الآن ينتقدون غياب الاتحاد عن المشهد.
يُضاف إلى هذا التناقض الصارخ في التعامل مع الدور الأوروبي لدى الجهات المتطرّفة إعجاب مشوّه بالتجربة الصينية في إدارة الأزمة على أراضيها. وبمعزلٍ عن الاتهامات العنصرية التي وجدت صداها لدى بعض الفئات، والتي تضع مسؤولية انتشار الوباء على الشعب الصيني، وما
تبع ذلك من ممارساتٍ تمييزية غير لائقة بحق المكوّن الصيني، إلا أن الإعجاب الأعمى في المقابل من المتطرفين اليساريين، كما اليمينيين، بالأسلوب الصيني في إدارة الأزمة يُشير إلى خلل عميق في الذهنية السائدة، وإلى خطر ماحق بالمؤسسة الديمقراطية الأوروبية. ومن النتائج السلبية المنتظرة في المستقبل القريب، انحراف لدى بعض المجموعات إلى الاعتقاد بإيجابية التسلطية في أساليب الحكم. وهذا ما بدأ يظهر بخجل نسبي في كتاباتٍ منسوبةٍ إلى رجال فكر وعلم، لا يمكن الاستهانة بتأثيرهم في الرأي العام. وقد غابت عن أولئك، كما معجبيهم، آلة الكذب التي فعّلتها الإدارة التسلطية في الصين منذ بداية انتشار الوباء في الشهر الأخير من السنة الماضية، وغاب عنهم أيضاً الأسلوب الديكتاتوري في إدارة الأزمة، من حيث فرض الحجر الصحي إلى التعامل مع جيوش الأطباء والممرّضين، مع تضحياتٍ جمّة، وكما أيضاً التعامل مع اليد العاملة بأسلوب السخرة المعروف في جُلّ الأنظمة الشمولية. إضافة إلى هذه الأساليب المعهودة بالتعامل مع الداخل، “أبدعت” الصين في محاولة استغلال الأزمة الإنسانية الكونية سياسياً، بحيث روّجت بعض المساعدات التي قدّمتها، وغالباً بأثمانٍ مرتفعة، إلى الدول الأوروبية، مطلقةً على سياستها تلك “طريق الحرير للصحة”، ما دفع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إلى القول إن الصين “لا تقوم إلا بردّ الجميل” الأوروبي، والذي تم في بداية انتشار الوباء فيها عبر مساعدات دوائية وتقنية أوروبية.
بين التشكيك بالمشروع الاتحادي الأوروبي والإعجاب بالنموذج التسلطي الصيني، ستكون أمام القارة العجوز مرحلة صعبة من الجهد المشترك، والذي يجب أن يفضي إلى حل إنقاذي للمشروع الأوروبي من جهة، ومن المشروع الصيني من جهة أخرى.