يتداول معظم وسائل الإعلام منذ انطلاق عملية درع الفرات التركية داخل الأراضي السورية، في الأسباب والأهداف التي بدأت من أجلها هذه العملية العسكرية، وعلى وجه الخصوص توقيت العملية بعد تعرض الأراضي التركية طوال الخمس سنوات الماضية، لعشرات الهجمات الإرهابية انطلاقاً من الأراضي السورية، وللوقوف على تفاصيل حول الموقف التركي، التقت «الحياة» عضو البرلمان التركي فوزي شان وردي نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، والنائب عن ولاية هاتاي الحدودية مع سورية من حزب العدالة والتنمية الحاكم. وكان الحوار التالي:
* تطالب تركيا الميليشيات الكردية في سورية بالانسحاب إلى شرق الفرات، هل يعني هذا أن تركيا لن تعترض إذا أقامت الميليشيات المذكورة فيديراليتها أو حكمها الذاتي شرق الفرات؟
– منذ بدايــــة المرحلـــة التي تعرف باسم الربيع العـــربي، استند التحرك التركي إلى ثلاثـــة مبــادئ أساسية: أولاً، تلبية المطالب المشروعة للشعوب. ثانياً، ضمان وحدة التراب الوطني للبلاد التي شهدت مرحلة الربيع العربي. ثالثاً، تجنب اتخاذ مواقف قد تقود البلاد إلى أتون حرب داخلية.
إن مواقف تركيا تلك تنطبق مع نظرتها تجاه الأزمة في سورية. أجرت أنقرة مراراً وتكراراً محادثات رسمية وغير رسمية مع نظام دمشق بالتزامن مع تصاعد احتمالات امتداد موجة الربيع العربي لتصل إلى سورية. كما واصلت تركيا بذل جهودها بعد وصول موجة الربيع العربي إلى سورية. في الواقع، رغم جميع الجهود التي بذلتها تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من تاريخ الأزمة السورية، إلا أن نظام الأسد اختار مجابهة الشعب والإمعان في قتله بدلاً من إجراء الإصلاحات اللازمة وإدارة الأزمة بطريقة سلمية، متجاهلاً بذلك جميع الجهود التي بذلتها تركيا من أجل إيجاد حلول سلمية للأزمة. وعليه، وقفت تركيا إلى جانب الشعب السوري من دون التنازل قيد أنملة عن مبادئها. كما أن هذا القرار لم يتخذ لمراعاة مصالحها البتة بل التزاماً بمبادئها المساندة للمطالب المشروعة للشعوب، فضلاً عن أن أنقرة التي عززت ديموقراطيتها في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة، لم يكن بوسعها التنازل عن مبادئها ودعم أي سلطة مناهضةٍ للديموقراطية.
قبل تقـــييم التطورات في شمالي سوريــــة، أود التأكيــــد على النقاط التاليــــة.
لم تتخذ تركيا أي مواقف مناهضةٍ للشعـــب الكردي في سورية أو في أي بلدٍ آخــر. وسعَت الحكومات المتعاقبة لحزب العــدالة والتنمية من أجل إيجاد حلول لمشكلات المواطنين الأكراد في تركيا، كما سعـــت في الوقت ذاته الى امتلاك أفضل العـــلاقات مع أكراد دول الجوار. وفي هذا السيـــاق أود الإشارة إلى علاقات التعاون المتينـــة بين تركيا وإقليم شمال العراق وطلــب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (كان وقتــها رئيس وزراء) من رئيس النظام السوري بشـــار الأسد، في أكثر من مناسبة قبل الأزمة الســــورية، منح الأكراد السوريين الذين تم تجريدهـــم من جنسيتهم عام 1962 الجنسية الســـورية، وإنهاء معاناتهم الناتجة من عيشهـــم كأجانب في وطنهم، إضافة إلى أن تركـيـــا فتحـــت أبـــوابهـــا أمام أبناء الشعب الكردي السوري واستقبلتهم كضيوف على أرضها عندما هاجم تنظيم داعش الإرهابي مدينة كوباني/عين العرب بمحافظة حلب (شمال سورية). وفي سابقة هي الأولى من نوعها، فتحت تركيا ممراً يسمح بعبور قوات البيشمركة الكردية (جيش إقليم شمال العراق) عبر أراضيها، لقتال مسلحي «داعش» في عين العرب، إن جميع تلك الإجراءات والخطوات تشكل فعلياً دعماً مفتوحاً للأكراد في تلك المنطقة، وتدل على السياسات الرزينة لحكومات العدالة والتنمية والهادفة لاحتواء جميع مكونات المنطقة وخفض التوتر ورفع الظلم عن المظلومين وإعادة الحقوق لأصحابها.
إن الشيء الذي تعارضه تركيا، هو قيام أي طرف من الأطراف أو مكون من المكونات بالاستفادة من الحرب الداخلية الدائرة في سورية وإقامة دولة كردية شمالها من خلال تنظيم إرهابي. الجميع يعلم أن تنظيم «ب ي د» (الاتحاد الديمقراطي) الذراع السورية لمنظمة «بي كا كا» الإرهابية لا يدافع عن مصالح الشعب السوري، ويقوم مع «بي كا كا» بتنفيذ أعمالٍ إرهابية داخل تركيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن منظمات إرهابية مثل «بي كا كا» و «ب ي د» لا تعتبر ممثلاً للشعب الكردي. وأفضل مثال على ذلك، هو أن حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا، المدعوم من منظمة «بي كا كا» الإرهابية، حصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على 59 مقعداً انتخابياً في البرلمان التركي، في الوقت الذي حصل فيه «العدالة والتنمية» على 317 مقعداً برلمانياً 70 منهم لنواب أكراد. وبالعودة إلى سورية، فلو كان «ب ي د» ممثلاً حقيقياً للشعب الكردي، فلماذا يسعى الى قمع جميع الأصوات الكردية المعارضة له في المناطق التي يسيطر عليها شمال سورية من خلال الاغتيال والاعتقال والنفي والإبعاد، وما هو السبب الذي دفع أكراد سورية لتأسيس «لواء ثوار الكرد» المناهض لـ «ب ي د»؟
إن إقامة دولة أو كيان كردي شمال سورية من قبل منظمات إرهابية مثل «بي كا كا» أو «ب ي د»، يعتبر قبل كل شيء أمراً مسيئاً لوحدة التراب السوري وهو مسألة غير مقبولة البتة. إضافة إلى أن هذا يعني أيضاً قطع الاتصال الجغرافي بين تركيا والعالم العربي. كما أن ذلك يشكل تهديداً مباشراً لأمن تركيا وسيادتها. في الواقع، إن ما يسعى إليه بعض الأطراف هو إقامة إسرائيل ثانية في المنطقة أكثر من كونها دولة كردية. أي مواصلة مرحلة سايكس بيكو وتجزئة المجزّأ، وإدخال المنطقة بما في ذلك تركيا على وجه الخصوص في مرحلة جديدة تملؤها النزاعات والمشكات. لذلك، فقد أعلنت تركيا غرب نهر الفرات خطاً أحمر، عندما رأت ذلك التهديد يدنو رويداً رويداً. وأكدت على التزامها بالدفاع عن مبادئها من خلال عملية درع الفرات. إن الرسالة التي تريد تركيا توجيهها واضحة للغاية. تركيا لن تسمح بتأسيس أي كيان يشكل تهديداً عليها. وفي هذا السياق أود التأكيد على أن الدفاع عن السيادة هو أحد الحقوق المشروعة والطبيعية بالنسبة الى أنقرة.
* لماذا تأخرت تركيا في إطلاق عملية درع الفرات؟ لماذا التأخر كل هذا الوقت رغم عشرات الهجمات التي استهدفت أراضيها انطلاقاً من الأراضي السورية؟
– نظرت تركيا إلى القضية السورية، ومنذ البداية، من منظور إنساني. وبذلت جهوداً استثنائية لعدم تعميق المشكلة والحد من اتساع رقعة الأزمات الإنسانية الناتجة منها. إضافة إلى أن بلادنا احتضنت أكثر من ثلاثة ملايين مواطن سوري من الذين اجبروا على ترك منازلهم بسبب الحرب الداخلية. بذلت تركيا كل هذه الجهود بهدف الوقوف بجانب الشعب السوري في محنته ومنع وقوع مآسٍ مشابهة للمآسي التي شهدتها المنطقة في القرن الماضي. لكن وللأسف، فإن نظام الأسد والأطراف الداعمة له شرعوا بارتكاب مذابح ضد الإنسانية، لذا فإن التطورات التي أعقبت تلك المرحلة لم تقد البلاد إلى حرب داخلية فقط، بل خلقت أيضاً مجالاً لظهور منظمات إرهابية ونموها، ووفرت أرضية تتيح لتلك المنظمات التحرك بسهولة. وفي هذه البيئة ظهرت منظمات إرهابية مثل «داعش» التي هي بالمحصلة نتاج تحالف دولي.
حاولت تركيا عدم اللجوء إلى اتخاذ تدابير عسكرية رغم المساعي التي بذلت لجرها إلى أتون الحرب السورية، من خلال أعمالٍ إرهابية كإسقاط طائرة تركية في حزيران (يونيو) 2012، وإطلاق صواريخ باتجاه تركيا انطلاقاً من الحدود السورية، والعمليات الإجرامية التي نفذها بعض المنظمات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» في بلادنا. إن الهدف من جر تركيا إلى تلك الحرب هو نقل الحرب الداخلية في سورية إلى تركيا، لتدخل المنطقة برمتها في أتون حرب تستمر لفترة طويلة جداً.
دافعت تركيا عن ضرورة إيجاد حلول سياسية للمشكلات التي تعتري المنطقة رغم كل الاستفزازات التي تعرضت لها. إلا أن عبور مسلحي تنظيم «ب ي د» (الاتحاد الديموقراطي) الإرهابي إلى منطقة غرب الفرات التي تمثل خطاً أحمر بالنسبة الى تركيا، أجبرت أنقرة على التدخل عسكرياً. لا سيما أن هذه الخطوة تحمل بين طياتها تهديدات واضحةً لتركيا. وهي تعني أيضاً البدء بتقسيم سورية وقطع الحدود البرّيّة بين تركيا والعالم العربي وفصلهما عن بعضهما بعضاً جغرافياً. لذلك، قررت تركيا اتخاذ التدابير اللازمة من أجل القضاء على تلك الأخطار وأطلقت عملية درع الفرات التي حظيت بترحيب شعبي من قبل سكان منطقة جرابلس، الذين سارعوا لدعم العملية وأظهروا تأييدهم للجيش التركي، ما يدل على صوابية هذه الخطوة وفعاليتها وجدواها.
* هل استندت تركيا في عمليتها العسكرية داخل الأراضي السورية على اتفاقية أضنة الموقعة بين الدولتين التركية والسورية عام 1998 والتي يسمح بموجبها للقوات التركية بملاحقة الإرهابيين في المناطق الحدودية؟
– غالباً ما سادت أجواء التوتر بين البلدين الجارين اللذين يملكان حدوداً مشتركة يبلغ طولها 911 كيلومتراً. فسورية وفقاً لتركيا، هي بلدٌ «عدو» لأنها تحتضن الإرهاب وتدعمه، وتثير المشكلات دوماً في ما يتعلق بتقاسم الموارد المائية، وتعمل على الإضرار بوحدة التراب الوطني لتركيا. من جهتها فسورية تقدم حججاً مختلفة لتجعل من تركيا «بلداً عدوّاً». إن الدعم الذي قدمته سورية لمنظماتٍ إرهابية مثل «بي كا كا»، أدى إلى تراجع العلاقات بين البلدين استناداً إلى أرضية متوترة. ومع توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 بدأت العلاقات بين البلدين تتخذ منحى إيجابياً، إلا أن العلاقات عادت لتتوتَّر مجدداً مع اندلاع الحرب الداخلية في سورية عام 2011.
نستطيع القول بكل ثقة، إن اتفاقية أضنة الموقعة عام 1998 تعتبر إنجازاً تاريخياً يحسب لمصلحة تركيا. لأنها تمكنت من فرض جميع شروطها على نظام دمشق وأجبرته على القبول بالشروط التركية وحصلت منه على ضمانات تتعلق بالتزامه بها. لكن ينبغي علينا تقييم عملية درع الفرات، والتطورات التي حدثت عام 1998 في شكل مختلف تماماً. ففي عام 1998، تراجعت دمشق خطوة إلى الوراء ووقع الطرفان على اتفاقية أضنة، عقب ردود الفعل القاسية التي أظهرتها أنقرة ملوحة باحتمال نشوب حرب مع دمشق على خلفية دعم الأخيرة منظمة «بي كا كا» الإرهابية لسنوات طويلة. أما اليوم، فتركيا تجري عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية للقضاء على الجماعات الإرهابية التي باتت تشكل تهديداً على أمنها، جراء استمرار الحرب الداخلية في سورية. وهنا لا بد من التأكيد على نقطة رئيسية وهي أن عمليات درع الفرات تجري في هذه الآونة بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والولايات المتحدة. إن تلك العمليات تتم وفقاً لحق الدول في الدفاع عن نفسها، والمنصوص عليها في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والقرارات الأممية ذات الصلة، والمتعلقة بمكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي.
إن تركيا تستخدم أحد حقوقها المشروعة التــي يمنحها إياه القانون الدولي. فضلاً عن أن الدول التي تقدم الدعم الأكبر لنظام الأسد، أي إيران وروسيا، أدلت بتصريحات أكّدت من خلالها على شرعية العمليات العسكرية التركية. إن تركيا ستواصل إجراء عملياتها العسكرية ضد الإرهاب حتى تقتنع بأن التهديدات الموجهة ضدها زالت تماماً.
* لم تنسحب الميليشيات الكردية حتى اليوم إلى شرق الفرات رغم التحذيرات التركية، كيف ستتعامل أنقرة مع تلك الميليشيات في حال استمر الوضع على ما هو عليه؟
– إن موقــــف تركـــيا في شأن هذه المســـألة واضحٌ تمامـــاً. فالعمليات العســــكرية التركية ستتواصل حتى انسحاب الجماعات الإرهابية إلى شرق الفــــرات والتأكد من عدم استمرارها بتشكيل أي تهديدٍ للأمن التركي. تمكنت العمليات الجارية على قدم وساق حتى الآن مــــن تطهير مساحة مهمة من المنظمات الإرهــــابية. ورغم ذلك، فإن الكثير من المعـــلومات التي تردنا تشير إلى وجود جهـــودٍ تبذلها جماعات إرهابية مثل «ب ي د» (الاتـــحاد الديموقراطي) و «ي ب ك» (وحدات حمـــاية الشعب) في سبيل المحافظة على وجـــودها في الضفة الغربية مـــن نهــــر الفرات. ومع ذلك، وكما ذكرت آنفاً، فإـــن العمليات العسكرية ستبقى مستمرة حتى التأكد من تطهير الضفة الغربية لنهر الفرات في شكل تام وانتهاء التهديدات القادمة من تلك المنطقة على الأمن التركي.
في رأيي، إن نطاق العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية سيتوسع ليشمل المنطقة التي تضم مدينة الرقة. وأثيرت هذه المسألة في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الصين مطلع أيلول (سبتمبر) الجاري. ولذلك، فأنا أتوقع توسع نطاق العمليات العسكرية لمكافحة الإرهاب لتشمل سورية ومدينة الموصل شمال العراق، لا سيما أنه من غير الممكن التحدث عن حل سياسي في سورية في ظل استمرار وجود تنظيمات إرهابية على رأسها تنظيم «داعش» في ذلك البلد.
* هل هناك احتمالات بإعادة الاتصالات مع الأسد في إطار توسيع العمليات العسكرية؟
– كما أشرت سابقاً، أعتقد بأن نطاق العمليات العسكرية التركية سيتوسع داخل سورية. وفي الوقت عينه، أتوقع أيضاً تنفيذ عملية عسكرية أخرى ضد الجماعات الإرهابية في العراق. وفي هذا الصدد، أعتقد أن حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، ستلعب دوراً نشطاً في هذا المجال. وحول قضية مكافحة الإرهاب، فإني لا أرجحُ أبداً إعادة تركيا الاتصالات مع الأسد وإشراكه في مكافحة الإرهاب. سيما أن الأسد هو الذي فتح المجال أمام المنظمات الإرهابية للتمدد في سورية. لذلك، فإني لا أرى أي فرق بين نظام دأب على قتل شعبه منذ ست سنوات وبين سائر المنظمات الإرهابية. تركيا لا تنظر بإيجابية إلى أي حل يُبقِي الأسد، وستواصل دعمها الشعب السوري وقضيته العادلة حتى يحقق النصر.
باسل الحاج جاسم – الحياة