لم أكن أظن أني سأعيش يوما لأكتب أو أدون شيء من الماضي كما يفعل المتفرغ المقعد على هامش الحياة ولا أن تطول هذه الثورة، بحيث ينسى آخرها أولها ،وتطمس حتى رسالتها ،ويحتاج المنتسب الجديد دائما لمن يذكره بأيقونة إسقاط النظام فلم أحتفظ بشيء من مغامرات الماضي ،إلا بعض الطلاسم والخلع والرموز، التي تعبر عن كل مرحلة مرت بها الثورة وكيف يرث القادة الراية المضرجة ليصرخ بأعلى صوته (أنا ربكم الأعلى) أو ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ .
خمس سنوات مضت …. لم أخطط …. خلالها إلا لشيء واحد، هو الانحياز الكامل للثورة ،مهما كانت النتائج حتى لم أكن أخطط ….. ماذا سأفعل بعد هذا القرار المصيري الانتحاري آن ذاك.
وما العمل الذي يمكنني فعله لزملائي بعدها. فكنت أرتجل الأعمال ارتجالا بحسب الوقائع ، وكل ما أفعله هو ردة فعل لا أكثر تفرضها الظروف فأحيانا تكلل بالنجاح، والكثير منها مصيره الفشل بصراحة وبدون خجل حتى الأشخاص, لم أعد أذكر إلا القليل منهم، بعد تعاقب المنتسبين والمنضمين والمنشقين وبعد رحيل أغلب من عرفت في الأيام الأولى، وتفرقهم بين شهيد وجريح ومعتقل ومهاجر. وعندما ألتقي بأحدهم، أعصر الذاكرة ولا تكاد تسعفني باسمه، أو بمكان لقائه إلا بعد فوات الأوان، ولطمة على الوجه ( كأنك لم تعرفني أنا.. فلان) وأحيانا لا أعرف ذاك الفلان وأين التقيته.
أعتدت على هذه الكلمة وأدمنت عليها , كفاقد للذاكرة الذي ينسى حتى لحظات النسيان المحرجة فور عبورها وتمر الأيام … ولا أجد حاجة لتدوين أي عمل يمكن فعله، أو حتى تبنيه وعرض نتائجه، لأنه سيكون مخجلا فعلا وهامشيا إذا ما قيس بعمل أي مرابط على إحدى الجبهات، في أقسى الظروف التي عرفت في تاريخ الحروب، أو أمام جريح خلفته تلك ، ورمته جانب الطريق ،بلا أي تعويض أو كلمة شكر أو امتنان .
فأي شيء يستحق الذكر، أمام معاناة الملايين من النازحين والمشردين، وأي شيء سيقارن مع معاناة الأرامل والمساكين، وأي شيء سيخلد في بلد تحترق، وتهدم فيها البنية التحتية بعمل ممنهج ومدروس وتفرغ منها الكفاءات والإدارات والمعلمين العاملين .
وأي فخر… لمن سيتهم لاحقا بالتآمر والتخابر والتعامل مع الأجنبي. وسيتهم بهدم البلاد وتشريد العباد . وستعلق الأوسمة على صدر القاتل الجبان شريك النظام، الذي لم يغسل يده بعد توبته. ولن يكون بوسع أحد محاسبته أو حتى سؤاله، وقد انشق بجمع غفير من أصحابه ،وقدم الولاء لسيد الزمان ونال الأمان .
كل هذا … يجعلني أعشق ألزهايمر وأتعايش معه كجزء هام من حياتي متوليا للظل باحثا عن دار للعجزة تستقبل الشباب بلا شروط مسبقة فالمأساة تعجز عن حملها دول ، فكيف تتدافع الفصائل لكسب السيادة ،على بقايا شعب عجز حتى عن الهرب واستسلم للأمر الواقع، وأصبح مبلغ أحلامه رغيف وسلة إغاثة وزجاجة دواء ويرى في الثوار سبب تعاسته وفقره .
فهل من أحمق بعد كل هذا يحلم بمنصب رفيع في الثورة ؟ سؤال برسم كل من يدور في حلبة الصراع على السلطة.
حليم العربي – المركز الصحفي السوري