لم يكن جثمان ابنتها قد وَورِي الثرى بعد، ولم تكن الصحف قد كفت بعد عن رواية تفاصيل مقتلها الدامي، حتى بدأت روزي آيليف تكتب بقلمها عن قاتل ابنتها.
كتبت في صحيفة الإندبندنت شهرَ أغسطس/آب الماضي، بعد 5 أيام فقط من مطاردة رجل لابنتها ذات الـ21 عاماً وطعنه لها حتى الموت وقتله لمسافر شاب آخر كان يحاول حماية ابنتها: “الحداد مضحك. لم أرَ مايا منذ عام تقريباً، لكنها في عقلي ما زالت حية ترزق وتعيش في أستراليا”.
وحتى في ذلك الوقت العصيب تحلَّت الأمُّ بالحصافة والحذر والدقة في كتابتها عن القاتل المتهم أن إسماعيل عياد صاح “الله أكبر” خلال الاعتداء، لكنه كذلك نطق بكلام غير مترابط، ثم طعن كلباً وبدا أنه مفتون بـ”ابنتها”، وفقاً لما ذكرته صحيفة الغارديان.
فكتبت آيليف “هناك الكثير من الهراء في الصحافة مما يقال عن قاتلها؛ إنه ليس متعصباً إسلامياً، فهو لم يطأ قط عتبة مسجد”.
كذلك الشرطة استبعدت دافع “الإرهاب” عن الجريمة، فتحول ملف جريمة إياد إلى محكمة الصحة النفسية والعقلية.
ما لبثت القصص المثيرة في الصحف والإعلام أن خَبَت، أما والدا مايا آيليف- تشنغ وتوم جاكسون فلبسا السواد وأعلنا الحداد وحاولا متابعة حياتهما والمضي فيها.
ومرت أشهر.
وفجأة، جاء يوم الثلاثاء الموافق لـ7 من فبراير/شباط 2017، لتذهل العائلتان من جديد بعرض صور قتلة الابنة والابن من بين قائمة للبيت الأبيض، أدرجت فيها سلسلة اعتداءات وهجمات إرهابية لم تحظَ بتغطية إعلامية كافية، فقالت آيليف إنها شعرت بالحاجة لتكتب من جديد وتضع النقاط على الحروف.
خطَّت آيليف رسالة مفتوحة موجهة للرئيس ترامب، قالت فيها “لن أسمح باستغلال مقتل ابنتي في سبيل زيادة تضييق هذا الاضطهاد الجنوني للناس الأبرياء”.
وانضم إليها في كلماتها تلك عائلة الضحية الثانية لذاك الاعتداء، توم جاكسون، الذين عبروا عن دهشتهم في رسالة إلكترونية أرسلوها إلى البيت الأبيض وغيره من الجهات المسؤولة.
كتب ليس جاكسون على موقع فيسبوك “أنا متأكد جداً، ومستشاروه يعرفون حق المعرفة، أو لعلهم يستطيعون التحقق بكل سهولة ويسر من أن توم ومايا فارقا الحياة، ليس بسبب فعل إرهابي، بل بسبب أفعال شخص مختل نفسياً”.
وأضاف جاكسون “لكن هذا طبعاً لا يتوافق مع أجندته” في إشارة إلى ترامب.
@realDonaldTrump wake up this morning to see you’ve used my Son murder to further your campaign of hate, how dare you. You are a disgrace.
ترجمة التغريدة: “إلى دونالد ترامب، لقد استيقظت صباح اليوم لأرى أنك استخدمت جريمة قتل ابني لتدعم حملتك المبنية على الكراهية. كيف تجرؤ. أنت عار علينا”. (7 فبراير/شباط 2017)
وتحدث جاكسون إلى صحيفة واشنطن بوست الأميركية فقال “لا أستطيع أن أتصور كيف لأحدهم أن يرغب تحويل موت توم إلى مسألة سياسية. إننا ما زلنا نحاول استيعاب ما حدث ولعلنا لن نفلح في ذلك أبداً. لقد أعادوا إلينا كل تجربة الصيف الماضي الأليمة، ونكؤوا جراحها”.
الواقعة
وكان المسافران الشابان –مايا وتوم- بالكاد يعرفان بعضهما أو حتى قاتلهما عندما تقاطعت طرقهما في أغسطس/آب الماضي في نُزُلٍ ناءٍ بأستراليا، حيث توقف المسافرون الشباب مع أمتعتهم التي يحملونها على ظهورهم بغية كسب شيء من المال لتمويل رحلتهم.
وكتبت آيليف في صحيفة الإندبندنت أن ابنتها مايا كانت لتوها قد باشرت العمل في مزرعة، تلتقط الحجارة المتناثرة وتتصل بعائلتها في إنكلترا “إما لأنها كانت تشعر بالضجر أو لأنها كانت تشعر بالوحدة”، حسب قول الأم.
وطبقاً للغارديان فقد كتبت الابنة ذات يوم على صفحتها الخاصة في فيسبوك في واحدة من أواخر مشاركاتها قبل أن تفارق الحياة “المهارات المكتسبة: القدرة على التفريق بين حجر وبين كتلة طين، ورمي الحجارة لمسافات بعيدة جداً”.
كانت مايا لتوِّها قد التقت بجاكسون، المسافر الإنكليزي الآخر الذي كان قد قضى في النزل نفسه بضعة أشهر، والذي قال والده إنه كان عازماً على رؤية أستراليا بعدما زار العديد من بلدان العالم.
أما عياد فقد كان هو الآخر نزيلاً في النزل نفسه، لكن مشاركاته على فيسبوك كانت من نوع آخر. فقد كتب طبقاً لموقع Yahoo News “أنا ضحية مؤامرة اقتصادية دولية، أظنني سأموت. يا من تحبونني، اتبعوني”.
ونقلت الغارديان أن عياد، المواطن الفرنسي البالغ من العمر 29 عاماً كان يقول لمن في النزل إنه ينوي الزواج بمايا.
لكن الشرطة قالت إن الاثنين لم تجمعهما أي علاقة رومانسية قبل ليلة 23 أغسطس/آب، التي قال نزلاء الفندق إن أياد أمسك فيها بسكين مطبخ.
وذكرت الغارديان أنه أيقظ آيليف-تشنغ من سريرها وسحبها إلى الشرفة.
أفلتت منه مجروحة، وأخذت تهرول عبر مبنى النزل وفق ما ذكرته المصادر، وذكر شهود أنهم سمعوا عياد يصرخ بشكل غير مفهوم وغير مترابط فيما كان يطاردها، وكان من جملة ما قاله “الله أكبر”، وسط صيحات أخرى، ثم شاهدوه يقفز من أعلى درج ليهوي برأسه قبل جسمه، فيقتل كلباً ثم يحاصر ضحيته أخيراً في حمام.
حاول جاكسون مساعدتها، فطعن الاثنين عدة مرات. توفيت مايا في النزل، أما توم جاكسون فوافته المنية بعد عدة أيام في مستشفى.
تقارير الأخبار الأولية تركت كل القصة لتركِّز فقط على كلمتين اثنتين قيلتا وسط أحداث الرعب التي لفّت تلك الليلة. يقول ليس جاكسون والد توم “لقد قال “الله أكبر” مثلما قد أصيح أنا قائلاً “أنا يسوع المسيح”. في البدء قيل إن الحادث قد يكون عملاً إرهابياً، لكننا لم نأخذ ذلك على محمل الجدية، وسرعان ما ثبت انتفاء تلك التهمة”.
British backpacker deaths: Man charged with Mia Ayliffe-Chung murder accused of second count as Tom Jackson dies http://bit.ly/2fcUCuj
دوافع الحادث
وقالت آيليف إنها شعرت بنفس الطريقة؛ ففي خلال أولى أيام حدادها كتبت في صحيفة الإندبندنت عن “المهندس التلفزيوني الذي زارنا البراحة، وقال “حسناً”، نعرف ماهية كل الحادثة، لقد كانت إرهاباً اسلامياً!، شكراً للتوضيح”.
بيد أن المحققين استبعدوا ذلك الاحتمال.
فقد كتبت صحيفة Townsville Bulletin الأسترالية المحلية “أن شرطة مقاطعة كوينزلاند والشرطة الأسترالية الفيدرالية ووحدة مكافحة الإرهاب المشتركة… جميعها حققت في وجود أي صلات بين عياد وبين المنظمات الراديكالية المتطرفة، ولم يجدوا أيَّ دليل على التطرف”.
وعندما كانت آيليف ترتب مراسم جنازة ابنتها، أدرجت ضمن جدول المراسم صلاة إسلامية لتقف في وجه ما أطلقت عليه اسم “إساءة تمثيل مقتل مايا في الإعلام ليبدو كأنه عمل إرهابي”.
بدا أن الأمر نجح، فقد توقفت التقارير الإخبارية البريطانية منها والأسترالية عن التركيز على جملة “الله أكبر”، وعوضاً عن ذلك بدأت تسرد التشخيص المبدئي لحالة عياد النفسية، حيث وجد بعد اعتقاله وتحويله إلى محكمة نفسية وعقلية أنه يعاني من انفصام.
أما كتابات آيليف الأم فانتقلت إلى مواضيع أخرى، أهمها المخاوف من أن المسافرين الشبان من مثل ابنتها كانوا يُستغَلون في العمالة.
وقال ليس جاكسون والد توم عن شبهات الإرهاب القديمة إنها “ولَّت وذهبت إلى غير رجعة، وكل من في رأسه عقلٌ يعرف ذلك”.
لكن ذلك دام هذا الأسبوع عندما بعثت آيليف إليه بتقرير من الولايات المتحدة– البيت الأبيض تحديداً.
فيوم الإثنين اتهم ترامب “الصحافة الكذابة جداً جداً” بالتستر على حوادث الإرهاب حول العالم، فيما وعد فريقُ إدارته بإصدار لائحة بتلك الحوادث الإرهابية.
ثم كان أن أصدر البيت الأبيض تلك اللائحة، بيد أنها كانت ملأى بالأخطاء المطبعية والأمثلة غير الدقيقة على الإرهاب “الذي لم يحظَ بتغطية إعلامية كافية”. فقد ذكرت اللائحة 78 حالة منها “مقتل اثنين وجرح واحد بحادث طعن سكين في نزل يتردد عليه الغربيون” في مقاطعة كوينزلاند بأستراليا، مذيلاً باسم القاتل المتهم، الذي مرة أخرى ألصقت باسمه صفة الإرهابي من جديد.
يقول ليس جاكسون لواشنطن بوست: “لا أستطيع تصديق ذلك. ثمة كم هائل من الحقد والكراهية، باختصار هناك أشياء سيئة كثيرة تدور في عالمنا في هذه اللحظة”.
ثم قال: “إننا في غنى عن هذا النوع من الهزل والهراء” وعندها أخذ الغضب والغليان منه كلَّ مأخذ، فاضطر لقطع مقابلته مع الصحيفة لتهدئ زوجته من روعه ويهدأ غضبه قليلاً.
زوجته ساندرا جاكسون قالت إنها كانت تواً تواسي أخت توم بشأن قائمة البيت الأبيض، وإنها أرسلت رسالة إلكترونية إلى الرئيس تُعبر فيها عن استيائها.
من جهتها، فكما فعلت إبان مقتل ابنتها، عمدت إيليف فوراً إلى مشاركة ردة فعلها مع العالم أجمع، فكتبت في رسالة مفتوحة موجهة إلى ترامب “إن ملابسات مقتل مايا وتوم تثبت أن أولئك الذين يتحلون بقوة شخصية تدفعهم ليطوفوا العالم بأسفارهم ويتعلموا عن ثقافات العالم، ينبغي الاعتزاز بشجاعتهم وبقوة شخصيتهم”.
وفيما انتهت من رسالتها وبدأ الصحفيون يتكالبون عليها، وتنهمر اتصالاتهم من كل حدب وصوب، شرعت آيليف بكتابة مقالة أخرى لمجلة أخرى، شاركت نص مسودتها مع صحيفة الواشنطن بوست. إذ كتبت يوم الثلاثاء 7 فبراير/شباط الجاري “جريمة مقتل ولدينا كانت بشعة ووحشية، لا بد أنها كانت مخيفة تماماً، وأجد عقلي كثيراً ما يحاول إعادة تمثيل أحداثها بصفة منتظمة”.
وختمت بالقول في مسودة مقالتها “إن وجدت لدي القوة الكافية لأقوم بذلك، فمن المؤكد أن أحد أتباع البيت الأبيض ممن وراءه قائمة عليه جمعها، قد يكلف خاطره حينها ليتحقق من صحة الحقائق التي لديه”.
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط
ترجمة: هافينغتون بوست عربي