قبل سنة من الآن.. كنت كباقي الأطفال، أسابق الطير، ألاعب الزهر، أذهب لمدرستي، تغمرني عائلتي بالحنان.
بالرغم من قساوة الوضع علينا من تشريد وقصف ودمار إلا أني كنت أعيش سعيدا: أمي بقربي أركض لحضنها الدافئ حين أخاف من صوت الطيران الحربي، أخواتي يعتنون بي كوني أنا الصغير المدلل، يأخذني أبي معه للحقل لنقوم بأعمال الزراعة.. كل شيء تغيّر في برهة من الزمن، انقلبت حياتي لشخص عاجز يناهز الثمانين من عمره لا يقوى على الحركة، سرقت مني طفولتي وأنا في عمر الزهر، أخذوا ألوان حياتي وتركوني أعيش في الظلام هنا وحدي في هذا العالم المعتم.
قبل سنة من الآن شن طيران النظام الظالم غاراته المكثفة على بلدتي، كنت خارج البيت برفقة أولاد الجيران، ركضت إلى البيت مسرعا.. اختبأت في حضن ولادتي مغمض العينين من هول صوت الطيران.
لم أكن أعلم أني سأفتح عيني على واقع مختلف تماما عمّا أعيشه، ففي ذلك الوقت قام الطيران بقصف منزلنا ما أدى إلى استشهاد والدتي وأخوتي الأربعة، أما أنا فقد أصبحت عاجزا على الحركة بعد إصابتي بجروح بليغة في عمودي الفقري، أبي لم يكن في البيت حينها، عاد للمنزل ليشهد ذلك الحدث المؤلم، هو كل ما تبقى من عائلتي.
ليتني غادرت الحياة مع أمي وأخوتي فأنا واثق الآن بأنهم ينعمون بحياة رغيدة في الجنة دون خوف من طيران.. دون تشرّد.. دون ألم.. دون عذاب.. لكن قدّر الله وما شاء فعل.
قضيت أياما طويلة في المستشفى في الأراضي التركية في محاولة لعلاج الضرر الذي لحق بعمودي الفقري ولكن دون جدوى، لم أكن أعبأ بالحياة حقا ولم أبالِ بما أصابني بعد فقدي أمي وأخواتي، انعدمت الحياة في روحي قبل جسدي ولم أعد أمتلك العزم والإرادة لأقاوم الألم.. لأواجه الحياة، بعد أن فقدتُ أمي الغالية لأي حضن سألجأ، إحساس الأمان، وشعور الدفء فارقني بمفارقتها.. من سيمدّ لي يد العون أي محبة سألقاها من الآخرين بعد رحيل أخوتي.. رباه أي واقع أعيشه.
أنا الآن مقعد عاجز عن الحركة أعيش في بيت جدي فبعد رحيلهم بشهور قليلة تزوج أبي ورفضت زوجته الاعتناء بي، فأخذتني جدتي لتقوم برعايتي، لا أنكر بأن والدي يحبني ويعتني بي، يقوم بزيارتي كل يوم يطمئن على حالي، وأي حال هي حالي؟!
أراقب الأطفال كل يوم وأنا جالس على كرسيّ المتنقل، أتذكر كيف كنت مثلهم يوما.. أذهب لمدرستي، أركض وأجري في الحي.. تناديني والدتي لانتبه لنفسي كما تفعل أمهاتهم الآن، يغص صدري بالبكاء وتمتلئ عينيّ بالدموع أستدير بكرسي ّ المتحرك لأعود لغرفتي فلم يعد لي مكان في هذا العالم.
عالمي الذي أعيشه الآن مقتصر على غرفتي أقضي وقتي بين بعض الأوراق التي أحاول فيها رسم ملامح أمي وأخوتي.. أرسم كيف كنت أعيش برفقتهم، أنظر إلى تلك الرسومات فتعود بي الذاكرة لأيام الصفاء.. لأيام لن تعود مهما تمنّيت عودتها.. أعيش الآن في كنف جدي وجدتي العجوزين، أشعر وكأني في عمرهم لا بل هم في نظري أصغر مني سنا لكونهم قادرين على الحركة وروحهم ما زالت تنبض بالحياة، أعيش دون أن أبالي بما قد يحدث، أراقب الطيران كل يوم لعلّه يشن غارة عليَّ تجمعني بأمي وأخوتي في السماء السابعة.
مجلة الحدث – نور سالم