رحل غونتر غراس الذي حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1999، كان حاضرا في ذاكرة العرب ويومياتهم الثقافية، ليس بسبب الجائزة التي حصل عليها، ولكن بسبب اندفاع غراس إلى التعاطف مع قضايا العالم الثالث، على النقيض من تيارات الثقافة الغربية التي بقيت إمّا متجاهلة لها، وإمّا ميالة لسرد روايات منحازة ضدّها، ومن تلك القضايا القضايا العربية، غراس الذي شارك في الحرب العالمية الثانية كضابط في سلاح الطيران النازي، والذي لم ينس له هذا من حاربوه لاحقا، كلما انتقد ظواهر العنصرية والكراهية والتمييز، رغم أن الجميع يعرف أنه شارك مرغما في حرب بلاده حينها، ولم يكن قد تجاوز السابعة عشرة من عمره.
النحات الذي درس الفن وتخصص فيه في دوسلدورف، غادر برلين وألمانيا نهائيا في أواسط الخمسينات للعيش في فرنسا، حتى بداية السبعينات، وهناك كتب عن “أوسكار” بطل روايته “الطبل والصفيح” التي تشهد على زمن الحرب وكوارثها، ورغم أن غراس حارب كي يظهر وجهه السياسي الاشتراكي، إلا أنه لم ينخرط في السياسة حزبيا، إلا في بداية الثمانينات، ليواصل التعبير المستمر عن رفض الحروب العدوانية والسياسات الغربية التي طالما وصفها بالانتهازية، ولا سيما الأميركية منها، والتي واجهها بقوة في زمن الحرب على العراق، قال غراس عن الولايات المتحدة “هل هذه هي الولايات المتحدة التي نحتفظ لها نحن الألمان بذكري طيبة ولأسباب عديدة؟ البلد الذي موّل بسخاء مشروع مارشال لإعادة بناء ألمانيا الغربية، صورة أميركا باتت حلما أو صورة مشتهاة، والآن تحوّلت إلى صورة مشوّهة”.
عرف غراس الثقافة العربية أولا في ألمانيا، واطلع عليها عن كثب لاحقا في البلدان العربية التي زارها، يقول “تسنّى لي أن أقرأ بعض النصوص الأدبية العربية المترجمة إلى الألمانية، فاكتشفت كم نحن في حاجة إلى المزيد، ليس لأنه أدب آخر فحسب، وإنما أيضا لأنه أدب على كثير من الخلق والتنوع والأهمية، ويعالج الموضوعات التي تشغلنا بعين أخرى”.
زار غونتر غراس الشرق مرارا، ورحل إلى اليمن التي تعاني من الحرب اليوم، بعد أن تحوّلت إلى مطمع جديد للإيرانيين الذين كان غراس قد دافع عن حقهم بامتلاك التقنيات النووية، في قصيدته الشهيرة، وتبرّع في أولى زياراته لليمن بمبلغ مليون دولار لإنشاء مدارس لتعليم العمارة اليمنية الطينية في حضرموت التي انبهر بها بعد زيارته لمدينة شبام اليمنية، قال غراس عن زيارته لليمن “التقيت بالكثير من الناس البسطاء، وتحدثت معهم عند تجوالي في المدن اليمنية، ولأنني رسام أيضا، فقد قمت بتخطيط بورتريهات للعديد من الناس البسطاء”، فبقي على علاقته تلك بالبسطاء في المشرق العربي كله، وطالب في بيانات عديدة بالحرية لشعوبه، وحذّر من قيام حرب ثالثة بسبب ما يتعرض له الشعب السوري على يد النظام السوري، والدعم الذي تقدّمه له روسيا وكذلك موقف هذه الأخيرة في أوكرانيا، واعتبر غراس أن إسرائيل تهدّد السلم العالمي.
قال غراس عن العرب وثقافة العرب “أن أؤكد أنني أرفض مصطلح صراع الثقافات، وأعتقد أنه اختراع من قبل الأصوليين على الجانبين، الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية، وعندما صرح الرئيس بوش بشعاره الحرب الصليبية كأنه بهذا الشعار أراد العودة بنا إلى القرون الوسطى. لقد كان هناك في الغرب رفض كامل لهذا الطرح، كان هناك الكثير من الاعتراضات. الأصولية الإسلامية يجب علينا أيضا أن نرفضها”، وكثيرا ما تحدّث عن تأثير الثقافة العربية على أعماله الروائية “من خلال تجربتي الروائية التي أضافت الكثير من روايات الفروسية، والتي كانت تقليدا في كتابة روايتي في إسبانيا، هذا التقليد في كتابة الرواية في إسبانيا في ذلك الوقت جاء نتيجة تأثير الثقافة الموريسكية، التي كانت موجودة في إسبانيا”.
غونتر غراس الذي دافع طويلا عن الإنسان، دون النظر إلى عرقه أو لونه، كان يرى الإرهاب واحدا، سواء كان صادرا عن متطرفين دينيا أو سياسيا، كان هو ذاته قد قال “هناك مجموعات عديدة تمارس الإرهاب، بن لادن يمارس الإرهاب، والمنظمات القريبة منه تمارس الإرهاب، ولكن من جانب آخر فإن ما تمارسه CIA هو أيضا نوع من الإرهاب”.
العربإبرهيم الجبين