يحمل بين يديه علبة بداخلها عدد من قطع البسكويت، يعرضها للبيع على المارة والجالسين في المقهى. محمود؛ طفلٌ من ريف دمشق، في الصف السادس الابتدائي.
يقول محمود: أمي تعمل في تنظيف المنازل، وأبي مفقود منذ 3 سنوات، أحاول أن اساعد أمي في جمع المبلغ اللازم لدفع إيجار البيت، ندفع 20 ألف ليرة شهرياً أجرة غرفة في إحدى ضواحي دمشق”.
ينادي محمود أخته التي تصغره سناً، بعد أن كانت تحاول بيع ما تحمله من قطع بسكويت على الطرف الآخر من الشارع، يمسك بيدها ويخبرنا أنهم سيعودان إلى المنزل فقد تأخر الوقت.
ليسوا متسولين
عندما تتجول في شوارع دمشق، تلحظ بشكل واضح انتشار الأطفال عند إشارات المرور وأمام المقاهي والمطاعم. يحاولون بيع مناديل ورقية أوالولّاعات أو علكة وأكياس بداخلها غزل البنات والبسكويت وغيرها من الأشياء رخيصة الثمن.
كثير من الناس يتعاملون معهم كمتسولين، فيعطوهم نقوداً وينصرفون، وهناك من يأخذ مقابل ما يعطيهم شيئاً مما يبيعونه، كي لا يُشعرهم بأنهم يتسوّلون.
بالقرب من جسر فكتوريا هناك مجموعة من الأطفال يقضون نهارهم عند إشارة المرور. تارةً تراهم يبيعون المحارم وتارةً أخرى تجدهم يلعبون بين السيارات.
تقول ميسون ابنة الثلاثة عشرة ربيعاً، لـ صدى الشام أنها تركت المدرسة منذ أن جاؤوا إلى دمشق من ريف حمص في عام 2013، وهي تبيع المناديل الورقية لتساعد والدها، وتقيم مع أمها وأخوتها الأربعة وخالتها وبنات خالتها الثلاث، في غرفة واحدة بأحد الفنادق الشعبية بمنطقة المرجة منذ ذلك الحين، أما والدها فلا يعلمون عنه شيئاً، فقد خرج ذات يوم ولم يعد.
لا توجد إحصائية لعمالة الأطفال، لكن بالملاحظة يمكن أن تتبين أن العدد كبير، فهم منتشرون في الشوارع والورش والمحال التجارية والأفران الخاصة، كما هو الحال مع مازن، ابن الثانية عشرة من العمر، الذي يعمل في فرن لبيع الخبز في إحدى ضواحي دمشق، مع والده. يتقاضى أجرة تعادل نصف أجرة العامل البالغ، ويأخذ خمس ربطات خبز ليبيعها بعد أن ينتهي العمل في الفرن يومياً، إلى جانب أبيه، الذي قال لـ صدى الشام :”كنت أتمنى أن يكمل أبني تعليمه، لكن المعيشة غالية ومتطلبات الحياة تزداد يوماً بعد آخر، وعائلتي كبيرة وبحاجة إلى المال”.
أمنيات
يثقل الوضع الاقتصادي المتردي على معظم العائلات، فبعدما كان فصل الصيف فرصة للأطفال لتنمية مواهبهم والترفيه عنهم، لم يبقَ لهم سوى الشارع مكاناً للعب. أبو راتب، الرجل الأربعيني، كان قبل عام 2011 يمنّي النفس بتربية أبنائه في أحسن الظروف، “كنت أقول أنه عندما يكبر أبنائي قليلاً سأجعلهم يتعلمون الموسيقا، وفي الصيف سأجعلهم يسجلون في أحد النوادي لتعلم السباحة، لكن الأمر أصبح مستحيلاً. يصف أبو راتب ما آلت إليه الأحوال، ويضيف “درس الموسيقا الذي لا يتجاوز النصف ساعة أصبح بـ1500 ليرة، والعود الذي كان سعره 4 ألاف ليرة أصبح بـ40 ألف ليرة، ودخول المسبح الذي كان بـ50 ليرة أصبح على الأقل بـ500 ليرة، حتى أنا لم يعد لدي وقت لأصحبهم بعد أن أصبحت أعمل حتى منتصف الليل لأستطيع تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم”.
مُفضّلون عند أصحاب المهن
أما أبو شوكت، صاحب ورشة حدادة بإحدى ضواحي دمشق، فيستذكر الأيام الخوالي “عندما كان الأهل يأتون بأبنائهم ليعلموهم مهنة يستفيدون منها إذا جار الزمان عليهم، وليبعدوهم عن الشارع ورفاق السوء، حسب وصفه، “أما اليوم فيأتي والد أو والدة الطفل يطلبون مني أن أشغّل ابنهم حتى لو بـ500 ليرة في اليوم، ليساعدوهم على تأمين حاجاتهم”.
ولفت أبو شوكت إلى أن “أصحاب المهن أصبحوا يفضلون أن يشغّلوا الأطفال أكثر من الشباب فأجورهم أقل، وحركتهم أسهل، فلا تقف على حاجز ساعة للتفييش (تدقيق بطاقتهم الشخصية من قبل الحواجز الأمنية إن كانوا مطلوبين لأي جهة)، ولا تخشى أن يعتقلونهم للخدمة العسكرية، لكن في بعض المناطق كجنوب دمشق قد يأخذونهم للعمل كسخرة على خطوط النار، في التنظيف ورفع السواتر الترابية”.
ناقوس الخطر
“الأطفال هم أكثر فئة دفعت ثمن ما يدور في البلاد طوال السنوات الماضية، دون أي ذنب، فقد خسروا حقهم في التعليم، ويتم تشغيل جزء كبير منهم في أوضاع غير مناسبة، وأعمال قد تكون خطيرة على الأطفال، كما يتم استغلالهم اقتصادياً، في وقت يتعرضون فيه لمختلف أنواع الانتهاكات والعنف”.
يحاول المرشد الاجتماعي الأستاذ عامر.ع.م، أن يسلط الضوء على حجم الضرر الذي لحق بالطفولة في سوريا عموماً، ويلفت في تصريح لـ صدى الشام، إلى أن “الأوضاع الاقتصادية والنزوح وفقدان رب الأسرة، واضطرار الأولاد إلى النزول للشارع، يعرضهم للكثير من المخاطر والانجرار وراء الأعمال غير المشروعة، إضافة إلى تضخم شعورهم بالظلم من قبل المجتمع أو السلطة الحاكمة، ما يجعلهم قنابل انتقامية موقوته، سيأتي يوم لتنفجر إذا لم يحتضنهم المجتمع ويعوضهم عما عانوه في سنوات حياتهم الأولى”.
وكانت العديد من المنظمات دقت ناقوس الخطر الذي يتهدد الأطفال في سوريا، فقد حذرت منظمة “أنقذوا الأطفال” الخيرية البريطانية، في آذار الماضي من تداعيات الحرب في سوريا على أطفالها، موضحة أنهم يعانون من درجات عالية من الضغط النفسي، وأنهم يكبرون ليصبحوا جيلاً يعاني من صدمات نفسية وعصبية.
وذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، في الشهر ذاته، أن الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في سوريا بلغت أعلى مستوى لها على الإطلاق في عام 2016؛ مبينة أنه وبعد 6 سنوات من الحرب، يعتمد الآن 6 ملايين طفل تقريبًا على المساعدات الإنسانية، أي بزيادة مقدارها 12 ضعفًا مقارنة مع عام 2012، ما اضطر ملايين الأطفال للنزوح.
صدى الشام