“عشتُ من دون بابا، سُجِن أبي عندما ولدت عام ،1981، وكنت لا أزال طفلاً في صغري لم أعرف لماذا كان مسجون، كنت اعتقد انه مسافر”، هكذا يختصر محمد وائل الططري ابن الطيار السوري المعتقل رغيد الططري، معاناته بعد سجن والده بشكل تعسفي من قبل نظام بشار الأسد. يكمل الططري عامه 41 في المعتقل. 41 سنة ليست مجرد عمر مضى بين القضبان، بل هي خسارة لذكرياتٍ، وأحلامٍ، خسارة للحظات مع العائلة، لحظة ولادة طفلك، خطوته الأولى، حاجته لك، إنها ليست مجرد 41 عاماً، إنها وجع يعدُّ على الأصابع من دون أن ينتهي.
ولمناسبة مرور كل هذه الأعوام يحاول وائل إعادة قضية والده إلى الاهتمام من خلال المشي، كنشاط بسيط حرم منه والده كل هذه السنوات.
فقد أطلقت “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، بالتعاون مع منظمة “The Syria Campaign”، حملة تهدف إلى التضامن مع رغيد وآلاف المعتقلين في سجون النظام، من خلال تعهد المشاركين حول العالم بالمشي. والخطوات التي سيمشيها المشاركون هي الخطوات التي لم يستطع رغيد وباقي السجناء السياسيين مشيها خلال السنوات الماضية.
لقاء الأب والابن بعد 14 عاماً
وفي حديث لـ”درج”، يحكي وائل الططري تفاصيل الحياة التي أمضاها من دون والده، إذ علم أن والده مسجون للمرة الأولى عن طريق ابن عمه. شكل الخبر صدمة له، عانى على أثرها فوبيا وخوف من كل ما له علاقة بالسلطات السورية.
السوري رغيد الططري، أقدم سجين سياسي في العالم، بحسب ما قال دياب سرية رئيس رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنا لـ “درج”. الططري وهو طيار سابق في سلاح الجو السوريّ، اعتُقِل لأول مرة عام ١٩٨٠ بسبب رفضه تنفيذ أوامر بقصف مواقع في مدينة حماة أثناء اجتياح النظام للمدينة، وبعد إطلاق سراحه اعتُقِل مجدداً في السنة اللاحقة. والآن يكمل 41 عاماً في المعتقل، من دون محاكمة، قضى معظمها كمخفي قسرياً، لم ير ابنه الوحيد الذي ولد بعد اعتقاله إلا بعد 14 سنة. وحتى حين أتيحت الفرصة لم تتمكن العائلة من ذلك إلا لمرات معدودة بسبب نقله بين العديد من السجون ومراكز الاعتقال عبر السنين بما فيها سجن صيدنايا سيء السمعة. بعد انطلاق الثورة السورية اضطُر ابن رغيد وزوجته إلى الهرب من سوريا وهكذا فقدت العائلة التواصل معه. يقول وائل: “طوال حياتي حُرمت من أن يكون لدي أب وحُرم هو من التعرف على ابنه الوحيد”.
إنها ليست مجرد 41 عاماً، إنها وجع يعدُّ على الأصابع من دون أن ينتهي.
في محاولة لمساعدة والده بأي شكل، أطلق وائل حملة “نمشي من أجل رغيد”، حيث مشى هو وأعضاء من رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا من أجل والده ومن أجل كل المعتقلين ومن قضوا في سجن صيدنايا وسجون سوريا.
يقول وائل: “حُرم والدي من أبسط حقوقه كالخروج من المنزل حين يشعر بالضيق والمشي ورؤية الطبيعة والعالم. فكرة الحملة أننا نريد من الناس أن تمشي بالنيابة عن كل الخطوات التي لم يستطع والدي مشيها”، يريد وائل أن يشعر الناس بالحرية، يتابع: “عندما خرجت ومشيت، شعرت كم أنني محظوظ بينما بابا محروم منذ 41 عاماً من أبسط حقوقه”.
أثّر غياب رغيد على وائل، وعلى الرغم من أنه جعله يعتمد على نفسه أكثر، إلا أنها كان تجربة شديدة القسوة، وبخاصة في المدرسة حيث كان يلاحظ أن لكل طفل أب وأم بينما كان والده غائباً، يقول: “لو ارتكب أبي خطأً أو قام بأذية أحد، قد أفهم سبب اعتقاله، لو قالوا لنا فقط سبب سجنه، 41 سنة من السجن ونحن لا نعلم تهمته”.
“كيفك وائل؟ والله صرت شب”
“أشعر أن تأثير اعتقال أبي عليَّ هو لا شيء أمام ما حدث له، فقد قضى أكثر من ثلثي حياته في السجن”، يقول الابن، وبحسب وائل وبعد تسريحه من الجيش سافر رغيد إلى مصر هرباً من النظام، وكان من المخطط أن تلحق به زوجته والطفل، إلا أن بعض الظروف حالت دون استخراج جواز سفر لوائل، فسافرت الأم بمفردها لرؤية الزوج وعادت بعدها، كان رغيد يخطط للسفر هو وعائلته إلى الخارج، إلا أنه علم بأن الأمن السوري طلب زوجته أكثر من مرة إلى التحقيق وعرضها للضرب، وعندما علم رغيد بذلك، عاد إلى سوريا رغم الخطر حيث اعتقل، هذا كل ما يذكره وائل مِمَا أخبرته به والدته المتوفاة، لكن لا أحد يعلم بشكل دقيق ما حدث في حينها.
“عندما خرجت ومشيت، شعرت كم أنني محظوظ بينما بابا محروم منذ 41 عاماً من أبسط حقوقه”.
لم تكن حياة الابن سهلة في ظل وجود زوج الأم القاسي الذي عامله بطريقة سيئة وحاول منعه من رؤية والده إلا أنه ذهب الى منزل عمه ومن ثم انطلقوا إلى سجن تدمر. يقول وائل: “كان ذلك اليوم كابوسياً والطريق طويلة وصعبة وكنت خائفاً فهذه المرة الأولى التي سأرى أبي فيها”. حين وصولهم إلى السجن تركهم الأمن السوري ينتظرون في الخارج، “حينها قال لي عمي هل تعلم أنهم يراقبوننا ويسمعون كل ما نقوله، كانت المخابرات قد زرعت في رؤوس الناس أنها متطورة جداً وقادرة على معرفة أي شيء، أو لديهم قوة إلهية أو هذا ما كنت اعتقده!”، يستذكر وائل تلك اللحظات الثقيلة، لاحقاً أدخل رجال الأمن كلّ شخص بمفرده وحققوا معه، وحين جاء دور وائل، سأله العسكري، أن يجيب بـ”لا” أو “نعم” على اسئلته، وكان العسكري يعلم مسبقاً كلّ شي عن الطفل بما في ذلك اسمه ومكان سكنه وحتى أسماء رفاقه في المدرسة وهذا ما أثار الرعب في نفسه، بخاصة حين ذكر اسماء اصدقائه. كيف يعرف اسماءهم وهم مجرد أطفال؟! بعدها انتقلوا لرؤية رغيد في غرفة يفصل بينه وبين أبنه فيها شبك حديدي، كان العم قد جهّز الطفل لاحتمال أن يكون والده متعباً أو تعرض للتعذيب، يقول وائل: “كان بالفعل متعباً لكن عيونه قوية، ثمَّ سألني كيفك وائل، والله صرت شب!”.
“مازالت لديه هذه النظرة الحنونة”
بعد انتقال الوالد إلى سجن صيدنايا الدموي، كانت عائلته تراه مرة كل عام فقط، يستذكر وائل رؤيته في إحدى المرات حيث تمكنوا من الجلوس في مكتب وعلى الكراسي وشربوا القهوة (كانوا محظوظين في حينها)، ولذلك ربما شعر وائل بالراحة وتمكن من الحديث مع والده من دون خوف، ليسأله والده: “عندك بلايستيشن؟”، يقول وائل: “صُدِمت حينها لأن حلمي كان أن أحصل على واحدة، صُدِمت لأنه وعلى الرغم من وجود أبي في السجن كل هذه السنوات كان يعلم بالبلايستيشن، في تلك اللحظة تكلم عن شيء خارج السجن، أشعرني أنه معي ونتحدث عن موضوع تافه”، يتابع بحرقة: “اليوم عمري 41 سنة وتلك هي المرة الوحيدة التي تحدثت فيها مع أبي بموضوع طبيعي، مثل هالأكلة الطيبة؟ ورغم أن هذا الشيء قد يبدو تافهاً إلّا أنه يعني لي الكثير”. بعد الثورة نُقل رغيد إلى سجن عدرا، وصار بإمكان وائل التواصل معه عبر الهاتف، وزيارته أكثر.
آخر زيارة لوائل كانت في 2012، ثم سافر بعدها إلى أميركا، والطريقة الوحيدة التي تمكن فيها من التواصل مع والده هي عن طريق أحد الأشخاص، في أحيانٍ أخرى تصله أخبار لكن قليلة جداً وخاصة بعد الحملة الأخيرة، منذ 8 أشهر، حيث ضيقوا عليه أكثر. وصلت إلى وائل صورة لوالده بعد الحملة، حيث كان يبدو عليه التعب والتقدم بالعمر، “لكن مازالت لديه هذه النظرة الحنونة”، يقول بشيء من الحزن.
بين نظام الأسد وإسرائيل
وبحسب دياب سرية، مدير رابطة معتقلي ومخفيي سجن صيدنايا، لا يوجد معتقل يساوي في سنوات اعتقاله رغيد سوى الفلسطيني نائل البرغوثي الذي اعتقلته قوات الإحتلال الإسرائيلي، لكن نائل تم الإفراج عنه عدة مرات خلال هذه السنوات ثم أعتُقل مجدداً، قضى منها 34 عاماً في سجن متواصل، لكنه حصل على بعض حقوقه كالمحاكمة والزواج والتعلم ورؤية عائلته، ومن المشين أن يكون الإحتلال الإسرائيلي أكثر رأفة من نظام الأسد، إذ درس نائل الانكليزية والعبرية وعاش حياة أفضل بعشرات المرات من الططري.
بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك قرابة 111 ألف سوري مختفٍ قسرياً منذ آذار 2011، غالبيتهم العظمى لدى النظام السوري، من بينهم 3,684 طفلاً، و8,469 سيدة، ويتصدر النظام السوري جميع أطراف النزاع باعتقاله 87% من العدد الإجمالي. لا يتوقف النظام على الاعتقال التعسفي، إذ قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إنَّ النظام السوري يُهدد ويعتقل ويعذب أهالي النشطاء السياسيين والعسكريين المعارضين على نحوٍ مشابه لأساليب المافيا.
رغيد الآن في السجن، لا يعلم أن ابنه الوحيد مازال يحاول إخراجه، ربما يكون قد فقد الأمل أو على العكس، لا أحد يعلم شكل الحياة التي يقضيها، بينما وائل مازال ينتظره ليخرج ويحكي له كيف أمضى 41 عاماً في معتقلات نظام الأسد.
نقلا عن وكالة درج…