حاز مؤتمر أستانة اهتمامًا كبيرًا، لم يكن ليحظى به لولا عوامل التوقيت التي جاء بها بعد سقوط مدينة حلب، وانسداد الأفق لدى المجتمع الدولي وفشل مباحثات جنيف المتكررة، وحالة الشعور بالإحباط لدى كثير من السوريين نظرًا للتشتت بالمواقف السياسية والعسكرية. وجاء كفرصة ثمينة للمعارضة، لم ترد التفريط بها، رغم التوجس والتخوف من محاولات روسيا والنظام تحويل هذا المؤتمر لتحقيق انتصار سياسي بعد الانتصار العسكري في حلب.
غياب أمريكا عن الحدث بسبب انشغالها بالمرحلة الانتقالية، والتغيرات بالوضع التركي بعد الانقلاب العسكري والعمليات الارهابية التي تتعرض لها تركيا، والتقارب الروسي التركي، والرغبة الروسية أيضا بتحقيق حل سريع في سوريا قبل مجيء مرحلة ترامب، والترقب الإيراني تخوفًا من القيادة الامريكية الجديدة، كلها عوامل أضافت قيمة وأهمية لهذا المؤتمر الارتجالي الطارئ.
ما قبل أستانة كثرت الأحاديث والنقاشات والشكوك على أمور عديدة، أولها اختيار الفصائل العسكرية للجلوس على طاولة المفاوضات، وتهميش دور السياسيين وخاصة الهيئة العليا للمفاوضات، غموض الهدف والراعي والحضور، والخشية من نسف كل المكاسب التي حصلت عليها المعارضة السورية في المرحلة السابقة من القرارات الأممية الصادرة، سببت نوعا من الارتباك والامتعاض والشك والتخوف والتوجس لدى مكونات المعارضة السورية واختلاف بين الفصائل المسلحة المجتمعة في أنقرة…
حضرت المعارضة بدون أي شرط مسبق تحت ترغيب وترهيب من تركيا.
وحضر النظام بأوامر من روسيا.
التدخل الروسي وما حققه على أرض الواقع من تغيرات بتفوقه العسكري، جعل كلا من النظام والمعارضة مقتنعين بعدم جدوى الاستمرار بالعمليات العسكرية ولا بد من الذهاب للحل السياسي طالما أن الحل العسكري غير ممكنا ولا مسموح به.
إيران حاولت تعطيل المؤتمر بدفع النظام والميليشيات الرديفة لزيادة الخروقات لوقف إطلاق النار، على المعارضة تحتج على ذلك وترفض الحضور، لكنها لم تفلح.
انعقد المؤتمر ولم تكن أجندته قد اتضحت بعد، وجدول الأعمال لم يتفق عليه. هل هو مؤشر لعدم الاستعداد بسبب الاستعجال، أم هو أمر مبيت لجس النبض واختيار الأجندة حسب ردود الأفعال. وربما طرح مواضيع سياسية ومناقشة الدستور الذي تم تسليمه للوفود في نهاية المؤتمر على خجل…!!
وفد النظام كان كالعادة أكثر انضباطًا من حيث المتكلم الوحيد لرئيس الوفد، بينما كان التسابق والتزاحم بين أعضاء وفد المعارضة واضحًا أمام الكاميرات والمؤامرات الصحفية.
كلمة رئيس الوفد محمد علوش، كانت شاملة وحملت توصيفًا جيدًا لمطالب الشعب السوري والثوابت التي لن يحيد عنها، وأعطت رسائل موجهة لعدة جهات، وأهمها الراعي الروسي، وربما هذا ما أغاظ الجعفري واستفزه وجعله يغيير من أسلوبه بعد الجلسة الافتتاحية، ويصف علوش بأنه رئيس وفد الجماعات المسلحة الإرهابية.
الغياب العربي في مؤتمر يخص بلدًا هو عمق الوطن العربي بأكمله، وضياعه هو ضياع لكثير من الدول وعلى رأسها دول الخليج لم يكن بالأمر المقبول أبدًا، وخاصة بحضور إيران التي هي جزء من المشكلة السورية. التواجد التركي والتنسيق المتواصل مع قطر والسعودية في كل المراحل ربما هو ما خفف هذا الفراغ غير المبرر.
لكل من الدولتين الراعيتين الاساسيتين روسيا وتركيا أهداف خاصة بهما، ولكن ما يجمعهما هو وحدة الأراضي السورية والتعاون لمحاربة داعش ومنع قيام الدولة الكردية.
والغريب أن الدول الثلاث الموقعة على البيان النهائي والتي أكدت على وحدة الأراضي السورية، هي التي لديها قوات على الأراضي السورية.
انتهى المؤتمر قبل أن يفهم الكثيرون لماذا انعقد…؟؟
لكن الحقيقة التي أدركها الجميع…
أن الوفود غادرت… والخلافات بقيت…
وبقي معهما السؤال الأهم ماذا جنى المواطن السوري من هذا المؤتمر…؟؟
ولماذا كل هذا الضجيج طالما أن المؤتمر سيتمخض عن بيان ثلاثي للدول الراعية ولا توقع عليه المعارضة ولا النظام الأسدي…؟؟
ربما الخطوة الايجابية الأهم من كل هذا المؤتمر هو التقارب الروسي مع المعارضة السورية، وخاصة الفصائل المسلحة التي كانت تعتبرها روسيا جماعات إرهابية، وها هي اليوم تجلس معها وتحادثها وتعتبرها طرفًا من طرفي النزاع الذي يجب التفاوض معه.
بالمقابل تحمل هذه الإيجابية في طياتها خطورة القبول بتصنيف الفصائل المسلحة إلى قسمين، واستحقاق محاربة كل من لا يقبل مخرجات هذا المؤتمر… وما كُتب بالبيان النهائي من محاربة داعش والنصرة بشكل مشترك، جملة جعلت الكثيرين يتوقفون عندها.
عدم إدراج الميليشيات الايرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية ضمن الفصائل الإرهابية التي يجب محاربتها وإخراجها من سورية هو فشل بالنسبة للمعارضة وداعميها.
إيران التي صرح أعضاء وفد المعارضة بأن هدفهم من المشاركة هو تحجيم دورها، هل تم تحجيمه…؟ أم أن انضمامها للدول الراعية روسيا وإيران وتشكيل جهة ثلاثية لمراقبة خروقات وقف اطلاق النار، هو مكسبٌ ونجاحٌ لها أم تراجعٌ وتحجيم…؟؟
وهل ستعتبر هذه الخطوة لإشراك إيران في مباحثات جنيف القادمة بشكل تلقائي طالما أن مؤتمر أستانة هو مرحلة سيتم استكمالها في جنيف…!!؟؟
وصف الجعفري للفصائل المسلحة بأنها كانت إرهابية واليوم معتدلة ويمكن التفاوض معها، يدحض نظرية النظام التي اعتمد عليها طيلة السنيين الماضية وهذا مكسب إعلامي على الأقل للمعارضة السورية.
الهدف الرئيسي لمؤتمر أستانة بالنسبة للمعارضة – على الأقل – كان هو تثبيت وقف إطلاق النار، الذي أعلن عنه في الثلاثين من الشهر الماضي في أنقرة…
ورغم أن خروقات وقف إطلاق النار استمرت، ولم يُراعى هذا الأمر أبدًا، لا قبل مؤتمر أستانة، ولا أثناء انعقاده، ولا بعده، حسب تصريحات الجعفري، بأن وادي بردى مستثنى منه…
ورغم العبارات العامة الفضفاضة في البيان الثلاثي عن كيفية المراقبة والمحاسبة لمن يرتكب الخروقات، يبقى المحك الأساسي لنجاح هذا المؤتمر هو التطبيق الفعلي لوقف إطلاق النار وعدم اختراقه بحجج واهية…
وفشل ذلك يعني فشل المؤتمر…
د. مصطفى حامد أوغلو – ترك برس