رغم التجاذبات والمواقف المرتبكة للدول الراعية لمؤتمر أستانة، روسيا وإيران وتركيا، فإن هذه الدول استطاعت الاهتداء إلى طريقة في أن تبدو ممسكة بخيوط الوفود المشاركة في المؤتمر بحيث لا تنفجر التناقضات لفترة من الزمن.
اتخذ مؤتمر أستانة شكلا مختلفا عن سلسلة جنيف رافقته العديد من المعطيات والدلالات التي تتجلى أولا في؛ التوقيت المتعمد الذي أتى بعد انتصار حلب، وما سبقه من تصريح بشار الأسد لوسائل إعلام فرنسية عن استعداده للتفاوض حول “كل شيء” ومن جملتها منصب الرئيس المتعلق بالدستور وآلية وصول الرئيس إلى السلطة.
ثانيا؛ اختيار أستانة، البلد العابر للقارات، التي تشكل مفترق طرق بين روسيا والشرق والحليف المقرب من موسكو ولها علاقة جيدة مع إيران، والتي ازدهرت بفضل مواردها الطبيعية وثرواتها من النفط والغاز الطبيعي، وبالتالي هي جزء من المنظومة الدولية الخاضعة لأنابيب الغاز التي تمتد بين الشرق والغرب ولسكة الحديد الأوراسية المزمع إنشاؤها بتمويل صيني والتي تعيد تأهيل طريق الحرير القديم، وتعدّ تركيا صلة وصل في هذا المحور بفرصه التجارية الكبرى.
ثالثا؛ قلب معادلات جنيف وإعطاء الأولوية للاتفاقات العسكرية على السياسية، إذ أجمع رعاة أستانة على التوصل إلى اتفاق عسكري يمهّد لتوافق سياسي، وبالتالي التوجه نحو فرز المقاتلين بين متمردين، وجهاديين “إرهابيين”، وإسقاط الشعار السائد بشمولية الإرهاب وتعميمه بأن كل معارض إرهابي، والاعتراف ببعض الفصائل ضمن التنسيق مع أنقرة، كالفصائل التسعة المشاركة تحت رئاسة محمد علوش القيادي في جيش الإسلام، والتي تثبت دور أنقرة في صناعة وتربية موالين لها تسعى إلى إشراكهم في التوليفة الجديدة للنظام المنتظر في سوريا، رغم تراجع نفوذ بعضها وتبادل الاتهامات بالمسؤولية عن نتائج معركة حلب فهو انتقال لمرحلة جديدة في المواجهة السياسية مع النظام السوري، وهو ما أكده البيان الذي أصدره “تجمع فاستقم” والذي أشار إلى أن “مؤتمر أستانة هو استحقاق سياسي مثلما هناك استحقاق عسكري”.
ثبتت أستانة البنود المتفق عليها والمعلنة من قبل روسيا وإيران وتركيا، ورغم تحفظات المعارضة على نقاط معينة في البيان الختامي للمؤتمر، إلا أنه تم اعتباره ناجحا، فوقف إطلاق النار ومعالجة الأوضاع الإنسانية خطوتان ضروريتان نحو إيجاد حل للحرب الدائرة في سوريا، ومحطة لبناء الثقة، لكن هذا النجاح لا يمكن عدّه قطعيا، فالمواقف المعلنة للدول المتحكمة في الساحة السورية، روسيا وإيران وتركيا، والساعية لتشكيل مظلة سياسية وأمنية وعسكرية يشوبها انعدام الثقة بينها، ما يعني أن خارطة التوازن الجديدة مرحلية وليست استراتيجية ما يجعل الاتفاق هشّا، يضاف إليه أن روسيا ساعية لتثبيت مرجعية جديدة تستند إلى أستانة تريد من خلالها فرض تصوراتها للحل وترتيب البيت السوري، وهو ما تجلى في تسليم دستور بصياغة روسية للوفد المعارض، وهذا يشكل تمهيدا رسميا لإدماج المقاتلين في الهيكلة السياسية للنظام وشرعنة لسلاحهم وتكريسا لهدن في مناطق معينة واشتعالات في مناطق أخرى.
مؤتمر أستانة لا يمثل دليلا على أن الأطراف المتحاربة وصلت إلى إدراك فداحة ما أوصلت إليه سوريا وشعبها من أوضاع مزرية، فهو لم يطرح حل الأزمة السورية أو رفع الظلم عن الشعب عبر التوصل إلى صياغة مقومات الدولة الوطنية، دولة المؤسسات والقانون الضامنة لإرادة مختلف فئات الشعب في العيش المشترك، والذي يعني نزع السلاح من أيدي الجميع، لا شرعنته وإدارته.
المصدر: صحيفة العرب.