لا تبدو الحكومة الأوروبية في موقع أفضل لتنتقد سياسة الأحزاب اليمينية الصاعدة وقرارات الرئيس الأميركي في ما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين. فمقترحاتها لإغلاق طريق البحر المتوسط الذي يسلكه اللاجئون نحو أوروبا ومشروع “فرس البحر” و فكرة “الدولة الثالثة” ومعسكرات المهاجرين في دول شمال أفريقيا، ليست أفضل حالا من تعليمات دونالد ترامب بشأن المهاجرين في الولايات المتحدة وقراراته بغلق حدود البلاد.
لا خلاف في أن دول أوروبا تتعامل باحترام وإنسانية مع المهاجرين، وأن هناك جمعيات وأحزابا كثيرة تدافع عن قضايا اللاجئين وحقوق الإنسان بشكل لم يتوفر لهم في بلادهم؛ لكن هناك وجها آخر لأوروبا ظهر مع تصاعد أزمة المهاجرين.
لم تصمد مبادئ حقوق الإنسان أمام أولويات الأمن وغلبة المصلحة القومية. وفيما يبدو في الظاهر أن النخبة التقليدية غاضبة من التيارات الشعبوية الصاعدة، إلا أنها في الباطن تستفيد من موقفها من ملف الهجرة وأزمة اللاجئين وتأثيراتهما الشعبية.
إيفرنا ماك غوان: من النفاق أن ينتقد الأوروبيون ترامب دون الاعتراف بالقيود التي يفرضونها على المهاجرين
لهذا، لم يجد الرد الذي أدلت به فيديريكا موغيريني، ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، على قرارات ترامب، صدى وترحيبا من المنظمات الدولية. لقد تعهّدت موغيريني بمواصلة استضافة اللاجئين، وقالت إن “ذلك يمثل هويتنا؛ فنحن نحتفل عندما تُهدم الجدران وتُبنى الجسور”.
لكن، وكما أشارت منظمة العفو الدولية (أمنستي)، تبقى كلمات موغيريني جعجعة بلا طحين ما لم يقم الاتحاد الأوروبي بمراجعة سياساته القاسية نحو اللاجئين والمهاجرين. ويجعل تلك السياسات متوائمة مع القانون الدولي لحقوق الإنسان؛ فالجدران لا تزال قائمة في أوروبا.
وتشير المتابَعات لمسار ملف الهجرة والتعاطي الأوروبي معها إلى أن هذه الجدران ستزداد سمكا، وأن الاتحاد الأوروبي يسعى لحل مشاكله مع المهاجرين على حساب أمن دول المتوسط التي تعتبر، منذ سنوات طويلة، معبرا رئيسيا للمهاجرين غير الشرعيين، وأضحت اليوم أيضا مقصد اللاجئين الفارين من الصراع في سوريا.
وبعد نجاح الاتفاق المثير للجدل بين تركيا والاتحاد الأوروبي في الحد بدرجة كبيرة من وصول اللاجئين إلى أوروبا عبر طريق شرق المتوسط، فكر الأوروبيون في استنساخ نموذج مشابه وتطبيقه على الضفة المقابلة للمتوسط.
ومن بين المشاريع الأوروبية المقترحة مشروع “فرس البحر” وشبكة للرقابة والتدريب لسلاح البحرية لإغلاق طريق البحر المتوسط الذي يسلكه اللاجئون نحو أوروبا بشكل أساسي.
عاد هذا الطريق القادم من دول شمال أفريقيا ليصبح الطريق الرئيسي للاجئين إلى أوروبا؛ حيث استعمله أكثر من 181 ألف مهاجر غير شرعي عام 2016 وحده.
وإذا جرت الأمور حسب تصور وزير الداخلية الألماني، توماس دي ميزير، فسيتم وضع اللاجئين الذين يتم اعتراضهم في البحر المتوسط أثناء محاولة عبورهم إلى أوروبا في معسكرات خاصة بهم في شمال أفريقيا.
وأيد رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، توماس أوبرمان، مؤخرا، إعادة اللاجئين إلى هذه البلدان لحرمان عصابات تهريب البشر من الأساس الذي تعتمد عليه صفقاتها. وكان وزير الداخلية الألماني الأسبق، أوتو شيلي، قد طرح مثل هذه الخطط عام 2004.
ومع اقتراب موعد الانتخابات في عدد من العواصم الأوروبية، يضيق الخناق على صناع القرار الأوروبي الذين يرغبون في إيجاد حلّ سريع لأزمة الهجرة، التي تشكل ورقة رابحة في أيدي اليمين المتشدد الذي يصعد بقوة، ما يعني أن سيناريو البركسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) قد يتكرر مع دول أوروبية أخرى.
ورصد الاتحاد الأوروبي مبلغ 200 مليون يورو، سيتم إنفاقه هذا العام، من أجل مشاريع بشمال أفريقيا لإغلاق طريق البحر المتوسط المركزي في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
المهاجرون يتحولون إلى ورقة مساومة يمكن استخــدامها لاستخلاص أقصى قدر ممكن من المساعدات والامتيازات
استنساخ الاتفاق التركي
بعد نجاح الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي، والذي دخل حيز التنفيذ في مارس 2016، رغم الخلافات الكبيرة بينها، في الحد من وصول اللاجئين إلى أوروبا عبر طريق شرق المتوسط، فكّر الأوروبيون في استنساخ نموذج مشابه وتطبيقه على الضفة المقابلة للمتوسط.
وجهت الحكومات الأوروبية مؤسسات الاتحاد وصناديقه المالية لتقديم إغراءات مادية ومعنوية لتونس ومصر والجزائر وليبيا، أملا في انتزاع موافقة على فكرة إنشاء معسكرات في أراضيها للحد من تدفق مواطني دول أفريقية عبر قنوات متعددة للهجرة غير الشرعية، تمر غالبيتها عبر طريق البحر المتوسط.
وسبق أن كشف السفير هشام بدر، مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون متعددة الأطراف والأمن، في تصريحات صحافية، عن تحركات أوروبية في ما يشبه الضغوط على دول أفريقية وعربية، بينها مصر، للقيام بدور حيوي في ملف الهجرة غير الشرعية.
كما أعلنت ألمانيا عن مشروع تمنح بمقتضاه 1200 يورو لكل لاجئ عمره فوق 12 عاما، يقرر سحب طلب لجوئه والعودة إلى وطنه، ولا يهم حتى إن كان إرهابيا، وهذه الدعوات الغريبة ليست الوحيدة من الدول الأوروبية لمواجهة الهجرة غير الشرعية، بعد أن كشفت أزمة اللاجئين عوراتها وخلافاتها.
وضمن مسلسل الإغراءات يأتي مشروع الصندوق الأوروبي للطوارئ الأفريقية لتحقيق الاستقرار ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية والمشردين في أفريقيا، وهو مشروع ضغط في شكل حوافز مادية أطلقته المفوضية الأوروبية ورصدت له 1.8 مليار يورو من ميزانية الاتحاد الأوروبي وصندوق التنمية الأوروبي، جنبا إلى جنب مع مساهمات من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وجهات مانحة أخرى.
وترصد تسنيم عبدالرحيم، باحثة في برنامج المؤسسات الأفريقية في المركز الأوروبي لإدارة سياسات التنمية ومركز الدراسات المتوسطية والدولية، أن بعض المسؤولين الأوروبيين اقترحوا خطة لاعتراض المهاجرين في البحر ونقلهم إلى تونس أو مصر حيث تقام مراكز احتجاز هناك؛ فيما ذهب البعض الآخر إلى اقتراح تهديد الدول المعنية بتقليص المعاملات الاقتصادية معها إن تراخت في مساعدة أوروبا.
وتأتي إيطاليا في صدارة الدول الأوروبية التي تبحث عن حل جذري ودائم لأزمة الهجرة، باعتبارها الميناء الرئيسي لقوارب الموت. ويرى وزير الداخلية الإيطالي ماركو مينّيتي أن المشروع الأوروبي لأفريقيا هو الحل الاستراتيجي للهجرة.
وقال مينّيتي، في مداخلته خلال جلسة استماع أمام لجنة التحقيق البرلمانية في نظام استقبال المهاجرين وتحديد هوياتهم وطردهم، وظروف إقامتهم أيضا، إن “هناك حاجة لوضع عدد من الإجراءات وتطبيقها فورا، نظرا لتحركنا من خلال إقامة اتفاقيات ثنائية”.
من بين هذه الاتفاقيات، مذكرة تفاهم مع ليبيا وُقِّعَت في الثاني من فبراير، دعمها القادة الأوروبيون، وقد وُقِّعَت في الثاني من فبراير. وينص الاتفاق على قيام إيطاليا بتأمين المال والتدريب والمعدّات لدعم حكومة الوفاق الوطني في إدارة الحدود وتعزيز قدرات خفر السواحل الليبية.
يشير المحلل السياسي التونسي خالد العبيدي، في تصريحات لـ”العرب” إلى أن “رغبة الاتحاد الأوروبي في التعاون مع دول شمال أفريقيا بخصوص ملف الهجرة عكس هاجسا أوروبيا موحدا عقب تكاثر الوافدين وما نتج عنه انعكاسات على عدة مستويات خاصة الأمنية”.
وأعلنت المفوضية الأوروبية في 25 يناير عن خطة، تم دعمها في قمة مالطا، التي عقدت في الثالث من فبراير 2017، للتفاوض مع حكومة الوفاق الوطني من أجل الحد من مغادرة المهاجرين عبر ليبيا.
أي حل سينهي أزمتهم
يهدف المخطط، وفق دراسة أعدتها تسنيم عبدالرحيم ركزت على العلاقة بين أوروبا وشمال أفريقيا من منطلق أزمة الهجرة، إلى إرجاع المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية أو منحهم الحماية والاستقرار في بلدان ثالثة خارج أوروبا.
وأقر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، خلال قمة استثنائية، خطة من عشر نقاط للحد من الهجرة إلى أوروبا، من بينها إقامة منشآت إيواء آمنة ومناسبة.
ويحتوي المقترح الأوروبي الجديد على نداء لتطوير قدرات خفر السواحل الليبية عبر مدّهم بالتدريب والمعدات اللازمة لمراقبة الحدود ورصد خطوط إمداد المهربين، إضافة إلى مساعدة ليبيا على حماية حدودها الجنوبية من خلال تنشيط التعاون الأمني الإقليمي في منطقة الساحل.
ويواجه المقترح الخاص بليبيا العديد من التحديات العملية والسياسية. فقد انتقدت منظمات عدة، منها المفوضية العليا للاجئين، عدم تقديم المقترح لبدائل حقيقية للجوء في بلدان آمنة لمن هم في حاجة إلى ذلك، وهو ما يُعتبَر إخلالا من قبل الاتحاد الأوروبي بتعهداته الدولية بموجب اتفاقية اللاجئين لعام 1951. وقد أكّدت المفوضية العليا للاجئين على ضرورة التفرقة بين الدوافع المختلفة للهجرة، وحذّرت من خطورة إعادة اللاجئين إلى بلدانهم.
ويهدف المخطط الأوروبي، أيضا، إلى تكثيف التعاون بين تونس ومصر والجزائر لمنع بروز طرق أخرى للهجرة في شمال أفريقيا. وتشير تسنيم عبدالرحيم إلى أن أوروبا تنوي مساندة هذه الدول في صياغة سياسات متكاملة للهجرة تشمل قوانين اللجوء وتدعيم قدراتها على توفير الحماية والمساعدة الإنسانية للمهاجرين.
لكن، هل فعلا من شأن مساعدة جيران ليبيا على تحسين البيئة المستقبِلة للاجئين أن تُمكّن الاتحاد الأوروبي لاحقا من تصنيف هذه الدول كبلدان ثالثة آمنة، أي بلدان يمكن نقل اللاجئين وطالبي اللجوء إليها، ويحصلون فيها على الحماية الدولية. وإلى أي مدى يمكن أن تصبح تونس بلدا ثالثا آمنا.
رفض تونسي
تعتبر تونس من أكثر الوجهات التي يرشحها الاتحاد الأوروبي لتلعب دورا هاما في خطط إنشاء معسكرات للاجئين في شمال أفريقيا. لكن رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد، أكد، خلال مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية مؤخرا، رفضه الواضح لمثل هذه الخطط، قائلا إنه لن تكون هناك مثل هذه المراكز في تونس، حيث يدرك التونسيون مخاطر إنشاء مثل هذه المعسكرات وأنها يمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد، في مثل هذا الوقت الحرج وعلى المدى البعيد أيضا.
وشدد على ذلك أيضا وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي حين عبر في تصريحات عديدة له أن تونس لن تقبل أن تكون مركزا لاحتواء المهاجرين أو “مقرا لرفع إشكاليات لا تخصها”.
ماركو مينيتي: وجود مشروع أوروبي لأجل أفريقيا هو الحل الاستراتيجي لملف الهجرة
وتشير تسنيم عبدالرحيم في دراستها إلى أن الاتحاد الأوروبي قدم الكثير من الإغراءات لتونس من أجل تمرير اتفاقيات تتنزل في هذا السياق. وقد انطلقت في أكتوبر 2016 مفاوضات موازية بين تونس والاتحاد لوضع مسودّتَي اتفاقيتين منفصلتين حول تسهيل الحصول على التأشيرة وإجراءات إعادة القبول.
تنص اتفاقية إعادة القبول، عند إنجازها، على إعادة المهاجرين خلسةً إلى بلدانهم الأصلية أو إلى البلدان التي عبروا منها قبل دخولهم الاتحاد الأوروبي الذي يأمل في أن تكون هذه الاتفاقية رادعاً لمن يعتزم العبور عبر تونس.
في مقابل التعاون التونسي، تقدّم أوروبا باقة من الحوافز من بينها فتح منافذ أوسع للتبادل العلمي والثقافي بين تونس وأوروبا، وتحديث مؤسسات التعليم العالي، وتطوير التكوين المهني، إضافة إلى الاستمرار في دعم قدرات الأجهزة الأمنية التونسية. غير أن تونس تُمانع في التحوّل إلى بلد ثالث آمن، وكذلك جوبِه الاقتراح الأوروبي بإقامة مخيمات للاجئين بالرفض.
يتأتى كذلك رفض تحويل تونس إلى مركز للمهاجرين من مخاوف بشأن الإشكالات الأمنية. فتونس تواجه حاليا تحديات أمنية عدة كالإرهاب والتهريب والمقاتلين العائدين من بؤر التوتر، ولن تكون من مصلحتها إضافة أعباء أخرى على كاهل أجهزتها الأمنية، لا سيما وأنها نجحت في التقليل بشكل كبير من عدد المهاجرين غير الشرعيين.
في حين أن تدفق اللاجئين عبر سواحل المتوسط قد ينحسر، فإن مثل هذه التدابير لا تشكّل حلا على المدى الطويل، والسياسات الخاطئة للاتحاد الأوروبي تبدو مسكنات لن تؤدي إلّا إلى تعميق الأزمة، حيث لم يتوقف شباب الدول الأفريقية، عن الحلم الأوروبي، ولن يتوقفوا عن ركوب قوارب الموت ولا عن البحث عن طرق جديدة للهجرة إلى أوروبا.
ينتقد المدافعون عن حقوق الإنسان بشدة خطط إعادة اللاجئين وإقامة معسكرات لهم؛ لأن هذه الخطط تراكم المشاكل، في رأيهم، وتزعزع الاستقرار الهش في المنطقة. كما أن هذه المعسكرات أصبحت بمثابة ورقة مساومة، بحسب منى الكخيا، من منظمة العفو الدولية.
تقول إيفرنا ماك غوان، المسؤولة في منظمة العفو الدولية، لقد خرج الأوروبيون للتظاهر في الشوارع بالآلاف احتجاجا على حظر السفر الذي أصدره ترامب. وقادة الاتحاد الأوروبي، أيضا، يواجهون ضغطا أكبر من الرأي العام لتعزيز وحماية القانون الدولي، ومع ذلك طالما بقيت سياسات الاتحاد الأوروبي غير السليمة وغير الإنسانية في ما يخص الهجرة، ستبقى أصوات قادة الاتحاد الأوروبي الذين يجاهرون بالاعتراض على ترامب مجرد نفاق سياسي، وستبقى الرسائل التي تنطوي عليها كل هذه السياسات أكبر من القدرات الحقيقية لما يمكن تحقيقه، كما تقول كوليت من معهد سياسات الهجرة.
العرب اللندنية