ندى الأزهري – الجزيرة
يُنقذنا هذه المرة العالم الافتراضي من وحدتنا وعزلتنا وحرماننا من السينما بصالاتها وشاشاتها الكبيرة، لننكفئ أمام شاشات صغيرة تهبنا متعة أقلّ، لكنها تنعم علينا بشيء من الرضى والقبول بما هو متوفر في زمن صعب ليس لنا فيه يد.
ألغي مهرجان “سينما الواقع” الذي كان مقررا أن يقام في باريس من 13 إلى 22 مارس/ آذار، مثله مثل بقية مهرجانات العالم التي ألغاها وباء فيروس كورونا، لكن الإدارة أتاحته افتراضيا على عدة منصات ومواقع إلكترونية، وليس فقط الأفلام بل كذلك التصويت للجمهور وللجان التحكيم لتوزّع جوائزها على عدة مسابقات.
بوستر مهرجان سينما الواقع الباريسي الذي يُعد أحد أهم مهرجانات الفيلم الوثائقي في العالم
“سينما الواقع”.. من الواقع إلى الافتراض
مهرجان “سينما الواقع” الباريسي هو أحد أهم مهرجانات الفيلم الوثائقي في العالم وأكثرها جذبا للانتباه بسبب حيويته ومواهب السينمائيين الذين يبرمج أفلامهم، مهرجان يبقى شابا مع سنواته الـ42 التي لم يحتفل بها كما يجب هذا العام، لكنه مع ذلك كان قد قرر قبل الإلغاء إفساح المجال لأفلامه لتنتشرَ على نحو أوسع في مختلف أنحاء فرنسا عبر إتاحتها على الإنترنت.
ينظم المهرجان كل سنة عدة مسابقات منها مسابقة للفيلم الوثائقي الطويل الآتي من شتى أنحاء العالم، ومسابقة للفيلم الوثائقي الفرنسي، وأخرى للفيلم القصير، ويحصل الفائزون على جوائز مالية تصل قيمة الكبرى منها إلى 8000 يورو.
كما أعلنت إدارة مهرجان “سينما الواقع” أيضا أن كل أفلام المسابقات ستعرض إذا سمحت الظروف في مركز “جورج بومبيدو” الثقافي في العاصمة الفرنسية من 3 إلى 29 يونيو/ حزيران القادم.
تتضمن مسابقة الفيلم الوثائقي الفرنسي 14 فيلما طويلا، ومن بين اللائحة التي وصلتنا لفت ملخص فيلم “أرض جيفار” على الفور أنظارنا، وهو فيلم من إخراج قُتيبة بَرْهَمْجي وإنتاج فرنسا وقطر، وتبلغ مدته 80 دقيقة.
المخرج قتيبة برهمجي الذي شارك في مونتاج ما يقرب من ثلاثين فيلما وثائقيا وروائيا
قتيبة برهمجي.. ابن دمشق الذي غزا السينما الفرنسية
ولد المخرج قتيبة برهمجي في ضواحي دمشق، وأمضى طفولته بين سوريا وروسيا حيث درس الطب، ثم استقر في باريس منذ العام 2005 ودرس السينما، وفي عام 2016 أخرج الفيلم القصير “وردة” الذي شاركت في إنتاجه وبثه المحطة التلفزيونية الثقافية الفرنسية الألمانية “آرتي”.
كما عمل في مونتاج ما يقرب من ثلاثين فيلما وثائقيا وروائيا، بما في ذلك الفيلم الوثائقي السوري “ما زالت تسجل” من إخراج سعيد البطل وغياث أيوب، والفيلم الروائي “ورد مسموم” للمصري أحمد فوزي صالح، والفيلم الفرنسي “الرجل المنحني” للمخرجين “أوليفييه دوري” و”ماري فيولين برانكارد”.
“واقع يجب أن نتكيف معه”.. صراع بين السلَمية ورينس
يتعلم جيفار الزراعة لمدة أربعة مواسم في حديقة صغيرة في ضواحي مدينة رينس الفرنسية، لقد قرر بعد أن قدم من سوريا ووجد نفسه مع شريكته وابنه في ضواحي هذه المدينة الاستثمار في استئجار قطعة أرض صغيرة لزراعة الخضروات فيها، وقبل تحضير الأرض يرسم الخطط ويجهز المساحات على الورق، ويتخيل ما سيكون مزروعا من طماطم وخيار وبطاطس وباذنجان.
يحضّر جيفار في صناديق خشبية البذور لتتحول براعم صغيرة، ومن خلالها يحلم بحديقة مثمرة، فهو قد وصل إلى فرنسا من مدينة السَلَمية السورية قبل وقت قصير، وعليه الآن مد جذوره هنا فالعودة أمر لا يمكن تصوره في هذه الظروف.
يبدو هذا من المشاهد الأولى للفيلم مع تصميم جيفار على الزراعة التي تتطلب زمنا واستقرارا في المكان، كما يظهر من خلال نقاش في سهرة مع أصدقاء سوريين حين يقول لسوري يرفض التأقلم بفرنسا: نحن في واقع علينا التكيف معه الآن.
جيفار يزرع البطاطس والباذنجان بعد أن استأجر قطعة أرض صغيرة لزراعة الخضراوات عليها
تمزق بين عالمين.. “أين الوطن؟”
تتبدى مصاعب الحياة خلال الفصول الأربعة التي تمرّ على هذه الأرض الجديدة، وعلى الآمال التي تُعقد عليها من قبل قادمين في أرض غالبا ما تكون مقاومة لآمال زوجين ولرغبتهما في التجذر، لكن عليهما الاعتياد عليها وعلى العمل فيها لتكون معبرا نحو ثقافة جديدة وحياة مغايرة.
الأرض هي هذا العالم الجديد، لكن العالم القديم يعود مع الاحتفال برفقة أصدقاء آخرين من سوريا، مع التشارك في انطباعات الوصول، هنا ضمن هذا العالم القديم وسيلة أخرى لإدراك كم أنّ جيفار مصمم على التأقلم مع الأرض الجديدة، مقابل أصدقاء لا يتمنون شيئا مثل العودة إلى الوطن.
لكن أيّ وطن؟ أهو وطن بشار ومنظومته التي ستبقى حتى لو اختفى -كما يقول جيفار- أم وطن الآخرين الذين لن يتركوا غيرهم يعيش كما يرغب وسيقيدون حريته الشخصية، أين هو هذا الوطن الذي لم يعد يناسب أشخاصا مثل جيفار؟
جيفار وزوجته يتحدثان عن قطف ثمار الثوم الذي زرعه منذ مدة في محاولة للهرب من أخبار القصف في سوريا
“قصفوا مصنعا في السَلميَة”.. مآسي سوريا التي تطاردنا
تبدو شخصية جيفار هنا كأفضل ما يمكن تقديمه واختياره لتمثيل هذه الفئة من السوريين، شخصية مثيرة للاهتمام بتأملاتها وحبها للحياة ومتعها الصغيرة والموسيقى والرقص، شخصية غير مدّعية لا تحب الثرثرة ولا الظهور، طبيعية صادقة في سعيها للتأقلم، تدافع عن فرنسا بطريقة قد تثير حساسية البعض، ولكنها تعبر عن محاولة مخلصة للتجذر في بلد فتح لهم بابا للحياة واستقبلهم.
لكن هذا التنازع بين الأماكن يظل حاضرا يحاصره، هنا لدى الزوج جيفار وهناك لدى الزوجة، لقد قرر -ربما مثل كثيرين- التوقف عن سماع أخبار البلد بينما تنقلها له زوجته باستمرار، ففي مشهد شديد التعبير في الفيلم تقرأ له خبرا عما يجري هناك، تقول: “قصفوا مصنعا في السَلمية”.
يظل صامتا وهو مستغرق في هاتفه كأنه هو أيضا يقلّب صفحات الأخبار ويبحث عن مزيد من التفاصيل حول الاعتداء، ثم يفاجئنا مفاجأة سعيدة بالرد: “يبدو أن قطاف الثوم لا يقع إلا حين تصفرّ أوراقه”. نتفهم رغبته بالابتعاد وبأن يصبح شخصا مزروعا هنا وإن على الرغم منه.
تمر الفصول، وتبدأ تطورات ملموسة في الشخصية وفي محيطها، ليبدأ جيفار يكتشف غرابة القوانين الفرنسية، حين يجب التوقف عن السقاية بسبب ندرة الأمطار يبدأ بنصيحة من جارته الفرنسية باختراق القانون، فكيف سيترك مزروعاته تهلك بعد كل هذا التعب، وينتقد -وإن بخجل- قوانين التشغيل “ومن أين لي بشهادة سواقة وسيارة لأعمل كدهان؟”.
جيفار يحتفل بعيد ميلاد ابنه الصغير عبر الهاتف، وذلك بعد أن انتقل إلى العمل في مدينة رينس
عيد ميلاد بنكهة فرنسية.. فوارق الثقافات
تُبدي بعض المشاهد القوية في الفيلم فوارق ثقافية، فالسوري لم يعتدْ بعد الأوامر الإدارية المكتوبة، ويريد التأكد من فلان وعلان، وهذا ليس لأنه لا يفهم الفرنسية فقد شرح له جاره، ولكنه يريد التأكد من جارة أخرى فلعل وعسى أن يكون هناك خطأ ما.
يعتذر جيفار من صاحب الأرض حين يحتج في رسالة على نمو أعشاب في المساحة المخصصة له مما اعتبره إهمالا، بينما جارته الفرنسية تقدم شكوى ضد صاحب الأرض لأنه صور أراضيهم وهذا لا يحق له، لقد تدخل في شؤونهم.
ثم تؤتي الأرض ثمارها، وينمو الطفل الصغير ويصبح في السادسة وتتحسن لغته الفرنسية، وبعد أن كان في البداية يتحدث العربية فقط بات الآن يترجم بعض الكلمات لوالده ويردّ بالفرنسية بل يصحح لغة والده، وتكون أغنية عيد ميلاده باللغة الفرنسية أولا، لكن الشخص المزروع الغارس للجذور التي تغذي الفروع -كما يحصل مع البطاطس التي يزرعها- يستسلم ببطء ويضطر لترك الفلاحة ومزروعاته لحساب عمل عثر عليه بعيدا عن مدينة رينس، لقد بات العمل هو الطريق الجديد.
فطرة الحنين.. “لقد كنا نحلم بوطن”
لقد تحولت أحلام سوريا وثورتها الجماعية في ذهن الفرد -وهو هنا جيفار- إلى طريق وحيد على أرض جديدة، بعيدا عن بلد مفقود يبدو أنه أصبح أرضا عقيمة، ولهذا يعاني جيفار معاناة صامتة، لكن المخرج يجعلنا نقرأها في سكوته وفي انصباب اهتمامه على الزراعة.
إنه أفضل تعبير عن هذا السوري الذي يسكنه شعور بالفشل والألم، عن هذا السوري الذي كان يحلم بوطن وبات اليوم أنانيا كما يرى نفسه، يعيش تناقضات تؤرقه في العمق، يعترف مرة أنه في أزمة: لقد كنا نحلم بوطن، كنا نبحث عن حل جمعي فبِت الآن أنشد خلاصا فرديا.
لقد عاين الألم بأم عينه ووصفه قائلا: “أول ما وصلت إلى فرنسا تساءلت كيف أصبحت هنا تاركا خلفي سوريا والبلد وشعبي وأناسي وأصدقائي وذاكرتي؟”. كيف سينسى كل هذا ويندمج هنا، إنه يسعى لغرس جذور هنا ونسيان هناك، أهو نوع من الهَرب؟ على ما يبدو، ولكن ليس ناجعا في كل الأوقات.
“أنت تهرب من كل شيء ولكن ليس من أحلامك”، الهناك يلاحقك في الحلم ويقضّ مضجعك، إنها إحدى المرات النادرة التي يبوح فيها جيفار في الفيلم، لكن مقدرته على تمرير أحاسيسه الداخلية التي يحاول كبتها تبدو أقوى وأشد تأثيرا.
حفل شواء يجمع جيفار بأصدقائه السوريين كنوع من الحنين للوطن
تلاعب بالخيوط من وراء الستار.. حكمة وبراعة إخراجية
تحترم كاميرا قتيبة برهمجي الجانب الشخصي والحميمي، فتبتعد تدريجيا عند نقاش منفعل بين الزوجين وتقترب في لقطات مقربة جدا من عمليات زرع البذور وكل ما يتعلق بالأرض، كما لا يتدخل المخرج في سير الفيلم ولا نشعر بوجوده، حتى أنه لا يردّ حتى حين يتحدث إليه جيفار.
حصل هذا في مشاهد عدة، حين كان جيفار يسأله عن معاني بعض الكلمات بالفرنسية، أو حين شعر بحاجة لوجود مترجم لأنه لا يفهم الفرنسية جيدا، لكن المخرج يتركه يتصرف كأنه ليس هنا، وفي كل هذا براعة منه وحكمة.
إنه يتحكم جيدا بالفيلم في مناوبة شبه متوازنة وجاذبة بين الحياة اليومية في البيت وبين المزرعة، بين الجانب الفردي الممثل بجيفار ومزروعاته، وهو يطغى أكثر دون أن يعني هذا إخلالا ببنية الفيلم، وبين الجانب العام الممثل بمحيطه من حياة عائلية وسهرات مع أصدقاء سوريين ولقاءات عابرة مع جيرانه المزارعين. إنه فيلم مليء بالحنين دون ذكره ولو مرة.