في ليلة 15 تموز (يوليو) الماضي، عندما انتشرت أخبار محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، كان الرئيس السوري بشار الأسد الأكثر متابعة من غيره لمسار هذا الحدث الكبير، والأكثر قلقاً على مصيره. كان يتمنى نجاح الانقلاب أملاً في أنه سينقل تركيا من موقف المناهض لحكمه إلى الحليف الذي يرى في بقائه منطلقاً للحل السياسي المنشود. تبعاً لذلك، مع تتابع أخبار فشل الانقلاب، أصبح السوري من أكثر الذين أصيبوا بالخيبة والإحباط. لا ينافسه في هذا الشعور إلا من تورطوا في المحاولة ذاتها. ليس مهماً رأينا في موقف الرئيس السوري. الأكثر أهمية هو ما يؤشر إليه، وما يؤشر إليه يضاف إلى مؤشرات أهم وأكبر وزناً من أن الأسد فقد السيطرة على مستقبله السياسي، وأن الثورة السورية التي بدأت سلمية وانتهت إلى حرب أهلية وضعت بالفعل حداً لهذا المستقبل. والمفارقة هنا أن الأسد هو من دفع الثورة إلى هذا المسار منذ يومها الأول، أملاً في أن يردع هذا المتظاهرين تفادياً للمآل الذي انتهى إليه غيره ممن واجهوا الحالة ذاتها.
استعان الأسد بالإيرانيين، ثم بـ «حزب الله» اللبناني، وبميليشيات أخرى جلبتها إيران من العراق وأفغانستان، وتبين أن هذا لم يضف شيئاً لحصانة النظام. جاء التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) الماضي، لكنه فشل أيضاً عند أسوار مدينة حلب. كل هذه الانتكاسات كانت تحصل بالتتالي على رغم الانكفاء الأميركي، واقتصار دور واشنطن في سورية في شكل رئيس على محاربة تنظيم «الدولة» (داعش)، أو ما يفترض أنه أحد أقوى خصوم نظام الأسد. الواقع أن واشنطن تقدم بهذا خدمة، ليست مقصودة على الأرجح، للرئيس السوري، لكن الرئيس غير قادر على توظيفها والاستفادة منها.
صورة الوضع السوري على هذا النحو تقول إن مستقبل بشار الأسد بات خارج سيطرته، ومرتهناً لحسابات ومصالح أطراف كثيرة تقع خارج سورية، بما في ذلك الميليشيات التي تحارب معه، والمعارضة التي تحاربه بكل أطيافها، حتى الجيش السوري لم يعد قادراً على حماية مستقبل الرئيس. تفكك هذا الجيش تحت وطأة الحرب الأهلية، والانكسارات التي تعرض لها، والانشقاقات الكبيرة التي مني بها (يقال إن حجم المنشقين يراوح بين 30 ألفاً و50 ألفاً من الضباط والجنود)، وتدخلات الإيرانيين والميليشيات. أصبح الجيش السوري أقرب للميليشيات عمّا كان عليه قبل الثورة.
ماذا عن موقف الشعب السوري؟ لو كان الأسد يؤمن بأن الشعب السوري هو مرتكز حصانته لما سارع إلى الحل الأمني ابتداءً، ولما فرض على الجيش الاصطدام بالنار مع هذا الشعب، ولما تبنى خيار تدمير الأحياء والمدن، ولما استهان بقتل الناس وتهجيرهم بالملايين، ولما شكّل ميليشيات الشبيحة من الطائفة التي ينتمي إليها، ولما استعان بالإيرانيين وميليشياتهم، ثم بالروس. فعل كل ذلك للبقاء في الحكم. الحقيقة أن موقف بشار الأسد صعب جداً، كما خياراته. هو أول وريث لوالده فيما يبدو أنه كان مشروع سلالة حكم في الشام. لكنه في الوقت نفسه أول من غامر وفرّط بهذا الإرث والسلالة وهي في بداياتها. كيف له أن يتخلص من ظلال فشل بهذا الحجم؟
قارن هذا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الأول خصم عنيد للأسد، والثاني حليف للأسد. أردوغان استعاد على خلفية فشل الانقلاب الكثير من الدعم الشعبي، والفسحة أمام خياراته السياسية. من الواضح أن الرجل يتطلع إلى إعادة تأسيس النظام السياسي التركي بعيداً من إرث المؤسس الأول كمال أتاتورك. السؤال: ما هي طبيعة النظام الذي يطمح إليه أردوغان؟ هل هو ديموقراطي تعددي، يتأسس على علمانية بصيغة تختلف عن علمانية أتاتورك؟ أم أنه نظام إسلامي يأتي على التعددية والعلمانية معاً؟ بوتين حقق لروسيا في سورية، ومن خلال بشار الأسد، ما كانت تفتقده قبل الثورة السورية. تمكن من انتزاع ورقة تفويض من الرئيس الأميركي باراك أوباما، بالإمساك بالملف السوري، وبالتالي عودة روسيا كطرف في تحديد مستقبل المنطقة. بعبارة أخرى، يمسك كل من أردوغان وبوتين بمستقبلهما السياسي، ومستقبل بلديهما ودور كل منهما في التحولات التي تنتظر المنطقة، وهذا على عكس الحال التي انتهى إليها بشار الأسد، لكن ما يقلق الأخير ليس هذا، ما يقلقه هو عودة العلاقة بين حليفه الروسي وخصمه التركي، وما ستتمخض عنه هذه العودة في ما يتعلق بمستقبله السياسي.
آفاق هذه العودة تبدو واسعة وتشمل مختلف المستويات السياسية والاقتصادية، ومستقبل الأسد هو عقدة الخلاف الرئيسة بينهما، وما يزيد من قلق الأسد هو مسارعة حليفه الآخر، وإن كان الأقل أهمية، إيران، إلى شجب الانقلاب على أردوغان، وإلى التقارب معه بعد فشل الانقلاب ونجاح قمته مع بوتين في بيترسبورغ الروسية.
هدف إيران هو محاولة إقناع أنقرة بتشكيل تحالف روسي – تركي – إيراني بعيداً من خصوم طهران، بخاصة السعودية، يكون وازناً لمصلحة بقاء الأسد. لكن الأخير يعرف بأن إيران هي الوحيدة التي تتمسك ببقائه، كما يعرف أن قبول تركيا بالمقترح الإيراني يعني تقييد تحالفاتها الغربية والإقليمية، وبالتالي تقليص خياراتها في سورية، وربما يعرف أكثر من الإيرانيين أن الدور الروسي في سورية مرتبط بشروط وحدود التفاهم مع واشنطن، الذي على أساسه سلمت بهذا الدور. يضاف إلى ذلك أن احتمالات وصول هيلاري كلينتون للبيت الأبيض بدأت تتعزز أخيراً بدرجة كبيرة، ما ينبئ بتغير في السياسة الأميركية تجاه المنطقة بعيداً من الانكفاء الذي تتبناه إدارة أوباما حالياً، وهذا ليس في مصلحة بقاء التفويض لروسيا كما هو عليه الآن، ولا لخيار بقاء الأسد. يعرف الأسد أيضاً أن الانعطافة التركية نحو روسيا وإسرائيل أدخلت ديناميكية جديدة على الصراع، وتعززت هذه الديناميكية أكثر لمصلحة أنقرة بعد فشل الانقلاب والالتفاف الشعبي ضده.
لا تستطيع أنقرة الاصطدام مع روسيا مرة أخرى، لكنها لا تستطيع التفريط بمكاسبها أيضاً. التسليم ببقاء الأسد يعني تعزيز الوجود الإيراني في سورية، وتآكل تلك المكاسب. وإذا كان هناك اتفاق على حل سياسي في سورية، وعلى المحافظة على مؤسسات الدولة، فإن أهمية مستقبل الأسد لمصلحة هذا الحل تتآكل مع الوقت وتطور الأحداث، وهو ما يفرض تنازلات متبادلة. لا تملك تركيا رفض الوجود الروسي في سورية، لكن تجاور هذا الوجود مع وجود إيراني، وبقاء الأسد سيكون على حسابها. وفي كل ذلك يبقى الأسد ورقة تفاوضية في يد الآخرين.
الحياة – خالد الدخيل