“اليوم توزيع الخبز ببلاش بس للمنتخبين، انتخبت؟”، أجبته بالنفي وهممت بالخروج، فسألني أحد العساكر إذا كنت سأنتخب أم لا، قلت له مبتسماً، “مو شايفني بالشورت والشحاطة، معقول فوت انتخب هيك؟”، تسارعت خطواتي إلى الخارج وابتسامة ساخرة على وجهي من شدة الشتائم في دماغي.
مضت أيام لم أخرج فيها من المنزل إلا مرات معدودة، أنتظر انتهاء الانتخابات الرئاسية، تسيطر علي حالة من الضحك. لم أكن أعلم أن أحد مراكز الاقتراع يقع في مواجهة منزلي، إلا حين تلقيت اتصالاً من صديقتي تخبرني أنهم عادوا إلى توزيع الخبز من دون البطاقة الذكية في المكان المعتاد. خرجت لإحضار الخبز الذي لم يجد طريقه إلى بيتي منذ 4 أيام، وصلت إلى المكان المعتاد في الشارع فلم أجد سيارة الخبز، الناس يمشون بجانبي وبأيديهم خبزهم. تبعت مصدر الخبز كفأر يجري إلى المصيدة، رفعت رأسي لأجد اثنين من العساكر، لم أعهد وجودهما على باب المبنى حيث سيارة الخبز. اعتدت التصرف بحنكة وسرعة في هذه المواقف، صافحتهما ودخلت فوراً إلى الموزع وطلبت خبزاً، “اليوم توزيع الخبز ببلاش بس للمنتخبين، انتخبت؟”، أجبته بالنفي وهممت بالخروج، فسألني أحد العساكر إذا كنت سأنتخب أم لا، قلت له مبتسماً “مو شايفني بالشورت والشحاطة، معقول فوت انتخب هيك؟”، تسارعت خطواتي إلى الخارج وابتسامة ساخرة على وجهي من شدة الشتائم في دماغي.
هكذا طُحِنَ دماغي مع بقية أصدقائي، بالسخرية والضحك واجتياز المواقف بالحذف، لا قدرة على الحزن ولا الغضب ولا المحاسبة ولا حتى على اتخاذ المواقف المبدئية التي دفعنا، ودفع معظم من حولنا، ثمنها بمقابل مخيب للآمال، فلو احتد الموقف أكثر، لدخلت وانتخبت ببساطة وأخبرت أصدقائي بالموقف وضحكنا جميعاً من شدة غُبننا ثم حذفنا الذكرى.
في الساعة الثامنة مساءً ذهبت إلى صديقي الذي اعتدت وأصدقائي على اللقاء في بيته من دون موعد، يتبعني بعد نصف ساعة صديق آخر برفقة شخص جديد، نجلس ونتحدث قليلاً ثم يذكر الشخص الجديد أنه أُجبِر على وضع 3 لافتات للرئيس في البلدة، ويتابع بشتيمة لبشار الأسد، ثم يبرر من دون أن يطلب منه أحد ذلك، “أخي نحنا منشتغل بالعقارات، بخربوا علينا كل شغلنا، ومو أول مرة بتصير، بيبعتولك (طرطور الفرع) بيعمل جولة عكل المحلات، بحسسك انو عم يشحد منك (مساهمتك) شحادة، ابن الحرام بيعرف أنو إذا خجلته ورجع معه اسمك عالورقة السودا بضيعلك مستقبلك، عطيته 250 ألف بعد ما بازرته شوي وصرفته”.
الشاب الجديد يبحث عن أحد ليتحدث ساخراً عن الغضب الذي في داخله، إن كنت سألومه فالأفضل أن ألوم نفسي أيضاً، علي أن أنصرف الآن، فقد اقترب موعد الاجتماع الذي نعقده أنا وبعض الأصدقاء أسبوعياً على تطبيق “الزوم” لمناقشة الأحداث السياسية والبحث عما يمكن فعله. أعتذر من الأصدقاء مستفسراً عن الوقت، يخرج الشاب الجديد جواله ويطلعني بالوقت، أقول في رأسي “جبروك تحط لافتات لحضرته، مين جبرك تحطه خلفية لجوالك”، أشتمه ثم أشعر بالغضب “أنا لا أبرئ نفسي بشتمه، أنا لم أنتخب ولكنني أعلم يقيناً أنني لو حوصرت لانتخبت”.
يبدأ اجتماع “الزوم”، أذناي في الاجتماع وعيناي على مركز الاقتراع، تحدثوا عن القضية الفلسطينية، تحدثوا عن الهيئة العليا للمفاوضات، تحدثوا عن الإدارة الذاتية والإرادة الشعبية، وعن التشكيلات المعارضة التي نبذتهم نتيجة الخلاف على اندفاعهم كشباب للاستيلاء على المراكز القيادية وتمسك القيادات القديمة بمواقعها، وتطفيش الفئة الشبابية واحداً تلو الآخر. كل ذلك وعلى مرأى عيني مبنى مركز الاقتراع الذي ما زال “على العضم” سامحاً لي برؤية كل ما يحصل داخله، لم أستطع منع نفسي من مقاطعة حديثهم بفتح الكاميرا وتوجيهها إلى مركز الاقتراع ومشاركتهم مشهد إفراغ صناديق الاقتراع في أكياس نايلون ونقلها إلى سيارة “سوزوكي” على باب المبنى في الساعة الواحدة والنصف ليلاً، ضحكوا وسخروا بشدة، “إنهم غاضبون مثلي تماماً”.
اليوم الثاني بعد للانتخابات صباحاً، ألبس ثيابي وأتوجه إلى عملي، سائق النقل الداخلي العام يفحص أصابع الركاب “النقل اليوم ببلاش لصاحب الإصبع الأزرق”، أشتمه في رأسي وأدفع له 200 ليرة “خلي الباقي الك” أقول له.
الحافلة تعجّ بصور بشار الأسد، الشوارع كذلك، السيارات أيضاً، الحواجز، الحدائق، المطاعم، “الكازيات”، أنظر يميناً أراه ضاحكاً، أنظر يساراً أراه عابساً، أنظر أمامي أراه متفلسفاً، أنظر خلفي أراه عسكرياً. أصل إلى المكان الذي أعمل فيه أجده قد حوصر بالصور واللافتات، أشعر بالإرهاق والتعب، أشتم “طرطور الفرع” على جهوده، أتهرب من الدوام بأخذ إجازة وأعود إلى البيت، رأسي بجوالي كل الطريق ألعب الشطرنج أملاً بتحييد المشاعر من دون جدوى، أصل إلى المنزل في العاشرة صباحاً، إلى النوم فوراً.
السادسة مساءً أستيقظ للمرة العاشرة، الجوال يرن، صديقتي تتصل وتسألني إذا ما كنت أريد المجيء إلى منزلها، فهناك سهرة لتوديع أحد الأصدقاء المسافرين إلى ألمانيا، أعرف تماماً أنني لا أريد الذهاب، ولكنها تشير إلي بأن اليوم هو موعد إعلان نتائج الانتخابات، وأن إطلاق الرصاص طاول منزلي أكثر من مرة في مناسبات مشابهة.
أنهض من فراشي، أستحم وألبس ثيابي، ثم أتوجّه إلى منزل صديقتي، أربعة أصدقاء يودعون خامسهم بعد العشرين الذين سبقوه على وقع إطلاق الرصاص احتفالاً بعهد جديد للسفاح.
نقلا عن وكالة درج