أكثر من 817 شهيداً غالبيتهم من النساءِ والأطفال، وأكثر من 7849 برميلاً متفجراً بينها براميل محملة بمادة النابلام الحارق إضافةً إلى 8 هجمات بالأسلحة الكيماوية و(3)عنقودية..حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، كل ذلك نتيجة لرفع أهالي داريا شعار (سوريا حنا معاكي للموت).
كانت داريا من أوائل المدن السورية التي وقفت بوجه النظام ولبت استغاثات شقيقتها الكبرى (درعا) فعلا صوت الثورةِ فيها وصدحت حناجرُ أبنائها بأجمل وأقوى الشعارات الداعية للحرية والكرامة والتي كادت تخفي أصوات طلقات الغدر والخيانةِ الموجهة من قبل عناصر الأمن على صدورِ المتظاهرين العزل ودوّت هذه الشعارات في أرجاء سوريا عموماً ودمشق خصوصاً حتى هزت أركان القصر الجمهوري.
وعندما أيقن النظام أنه بات من المستحيل إسكاتُ تلك الأصوات ببعض الطلقات الغادرة من أيد ترتجفُ خوفاً أمام تلك الجموع.
لجأ لتحريك آلته العسكرية والتي مابرح يتغنى بقوتها (لتحرير القدس)؛ من هنا حملت داريا راية الثورة بعد مقتل شقيقتها حمص العدية.
في(20)آب من العام(2012) شهدت أيقونة الثورة مجزرةً مروعة استمرت لثمانية أيام راح ضحيتها أكثر من(700)شهيدا من المدنيين .
إثر تلك المجازر وفي مطلع أيلول من الشهر ذاته شهدت المدينه نزوح أكثر من(220) ألفاً من سكانها والبالغ عددهم(255) ألف نسمة.
رائد الشامي ذو ال(31)عاماً خريج كلية العلوم قسم (الرياضيات) متزوج وله(ملاك صغير)، هكذا يحب أن يسميها إنها عروبة ذات ال(6)سنوات، وبعد مجزرة داريا وسقوط برميل متفجر على منزل أهله واستشهادهم لم يُضعِف ذلك من عزيمته بل آثر البقاء والانضمام لصفوف المدافعين عن داريا هذا مايرويه لنا، بل وزاد من عزيمته وقوف زوجته الصابرة جانبه والتي كانت تعمل كمسعفةٍ في المشفى الميداني الوحيد في المدينة.
يصف رائد لنا عظيم فرحته عند سماعه على اللاسلكي (القبضه) الصوت المعتاد بإقلاع مروحي من مطار المزة العسكري حيث لايبعتد بضعة كيلو مترات عن المدينه وهو يعلم معنى براميل متفجره قد تسقط في مكان رباطه أو فوق منزله الذي يؤوي ملاكه الصغير ورفيقة عمره، رغم كل هذا الخوف الذي يحيط به كانت السعادة تغمره لمّا سمع تناقل خبر (النفير العام لفك الحصار) يوم ويومان وثلاثة ايام ….تتسارع الاخبار الواردة لرائد وأصدقائه المدافعين عن مدينتهم ويتهادى لمسامعهم شعاراتٌ مدوية من كل أنحاء البلاد نصرة لهم.
في تلك الفترة كان يعود رائد للمنزل في وقت استراحته وكان حديثهم وشغلهم الشاغل متى سيبدأ فك الحصار؟؟؟؟؟؟
وبفرحةٍ عارمه يحتضن رائد ملاكه الصغير ويسألها عما تريد أن يجلب لها من مؤكولات وألعاب قد تعرفها أو قد نسيتها (بعد فك الحصار)، فوجِئ رائد بحزنها ولم تتأثر بضحكات أبويها ظناً منه أنها خائفة من صوت الطلقات التي كانت تُطلق من حواجز النظام المحيطه على مساكن المدنيين والتي أصبحت شيئاً طبيعياً لرائد وزوجته.
وبعد يومين تنتهي استراحة رائد ليعود لرابطه ويقضي بقية الأسبوع في خندق ٍصغير لايقي حر الصيف ولايرد برد الشتاء.
لمّا وصل لمكان رباطه لم يجد أصدقاءه على الحال الذي تركهم فيه من فرح وتفاؤل بتحرير مدينتهم حيث وجد الرؤوس منخفضة والبنادق ملقاة على الأرض يسأل رائد بدهشةٍ وذهول ما الذي حصل؟!!لكن ما من مجيب.
يمسك رائد برأس أحد رفاقه ويرفعه بقوة ويسأل “من استشهد؟؟ بالله عليك أجبني.”
يجيب صديقه والدموع قد بللت لحيته “داريا حان وقت الرحيل يارائد”.
ويذكر أن اتفاق داريا جاء بعد تهديد النظام باتباع سياسة الأرض المحروقه وارتكاب مجزرة بحق (4000)مدني ممن بقي إذا لم يخرجوا مع علم النظام عن بدء نفاذ الذخيرة وأبسط المواد الغذائية المعينة على استمرار حياتهم.
بعد(3) أيام دخلت الحافلات الخضراء لتشهد حالة النزع الأخير وإخراج الروح من الجسد الممزق و المخضب بدمائه……الجسد الذي ماطرحته أرضاً كل السهام والتي ماتركت شبراً إلا وأدمته إلا سهماً واحداً أصاب صدره واستقر في قلبه.
يصعد رائد إلى (حافلة الغدر) حاملاً عروبته محتضناً إياها وفي لحظاتٍ تبدو للناظر قصيرة، إنها (31)عاماً من الذكريات تنهمرُ من عيون رائد على تراب داريا.
صعد رائد وزوجته وابنته إلى الحافلة، وبعد ساعة من المسير، السكون والحزن يخيم على الركاب
“ولعل كلمة (حزن) أبسط كلمة يمكن أن تصف مانحن فيه” هذا مايتابع رائد حديثه لنا.
يقلب ذكرياته فيمر بذهنه حزن عروبة عندما سألها ماذا تريدين بعد فك الحاصر؟.، ابتسم ابتسامة حزينة وعلل ذلك لأنها ملاكه الصغير والملائكة صادقون.
ينظر لعروبه التي تجلس في حضنه محاولاً أن ينسيها الخوف، فابتسم والدموع تتخلل لحيته لينشد لعروبة:
بلاد العرب أوطاني…..من الساحل لحورانيِ.
وعلى الرغم من تلك الإحصائيات المخيفة ….الآلاف من البراميل التي سقطت على داريا، وآلاف المهجرين ومئات الشهداء إلا أن الأمر وصل لتهجير مدينةٍ كاملة.
كل ذلك لم يكن سبباً مقنعاً لاتخاذ خطواتٍ حقيقية بعيده عن الشعارات والهتافات.
ينهي رائد حديثه بأنشودته التي مر بها على كل المدن السورية مسمياً إياها عروبة.
محمد الخليف _ المركز الصحفي السوري